الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          خلق الله يدل على وحدانية الله

                                                          أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون

                                                          [ ص: 4855 ] هذا كلام موصول لبطلان الشركاء لله (تعالى)؛ ببيان إبداعه في خلقه؛ سواء أكان أولئك الشركاء المزعومون أحجارا؛ أم تماثيل؛ أم أوثانا؛ أم ادعوا أن الله بديع السماوات والأرض اتخذهم أبناء؛ وذلك البطلان ببيان عظمة خلقه. أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا الواو عاطفة؛ وتقدمها الاستفهام؛ وتقدير القول: "وألم ير الذين كفروا...؟! "؛ والاستفهام له الصدارة دائما؛ والاستفهام لإنكار الوقوع؛ أي أنهم لم يروا؛ وكان حقهم أن يروا؛ والرؤية ليست رؤية البصر؛ ولكن رؤية العلم والتبصر والإدراك؛ لأن أحدا لا يرى السماوات والأرض رتقا؛ و "الرتق ": الضم والالتحام خلقة كان أو صنيعة؛ وقد قال الأصفهاني في مفرداته: كانتا رتقا؛ أي: منضمتين؛ والمتتبع لآيات القرآن في بيان خلق السماوات يرى أن النصوص تتضافر على أنهما كانتا شيئا واحدا؛ كان كالدخان؛ أو هو ما يعبر عنه علماء الكون بـ "السديم "؛ لأنه مثل الدخان؛ وقد ذكرت شيئا مثل ذلك في تفسير ستة الأيام التي جاءت في عدة سور؛ وقلنا: إنها ستة أدوار؛ وليست ستة أيام زمنية؛ لأن الأيام مقدرة بالليل والنهار؛ وهما كانا بعد خلق السماوات والكواكب والنجوم والشمس والقمر؛ واقرأ قوله (تعالى): قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم

                                                          فإن هذه الآيات تشير إلى أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا؛ وكانت السماء ومعها الأرض دخانا؛ وهو ليس الدخان الذي نعرفه; لأن الدخان الذي نعرفه هو الناتج من اشتعال نار من حطب؛ أو نحوه من أي حطام؛ وما كان ذلك قبل السماء والأرض؛ فإذا قلنا: إنه الذي سماه علماء الكون: "السديم "؛ لا نكون مباعدين؛ بل نكون مقربين؛ غير مدعين على القرآن ما ليس فيه؛ وتكون الأرض قد [ ص: 4856 ] خلقت في ستة أيام؛ أي: أدوار في التكوين؛ بتدبير الله العزيز العليم؛ فخلق الله الأرض في يومين هما دور انفصالها عن الكتلة الشمسية؛ وتكوين طبقتها الأرضية الظاهرة؛ وبقاء باطنها ملتهبا كأصلها؛ ويبدو أحيانا شيء منه في براكين تقذف بالحمم والسعير؛ وبعد أن تكونت القشرة الأرضية كانت أربعة أدوار أخرى؛ فيها تكونت الجبال الرواسي؛ والسبل الفجاج؛ وتكون السحاب والمياه العذبة؛ والإنسان والحيوان والزروع والثمار؛ وكانت الأرض؛ هذا المهاد والفراش؛ وانتهى أمر الله بأن جعل من الماء كل شيء حي؛ فكان النبات والحيوان من الماء العذب؛ وكانت البحار موطنا ومحيى للسمك؛ اللحم الطري.

                                                          "ففتقناهما "؛ الفاء عاطفة للترتيب والتعقيب؛ وكان التعقيب لأنه لم يكن بين الرتق والفتق أمر كوني آخر؛ وكل شيء من فعل الله (تعالى) يكون بقوله (تعالى); "كن فيكون "؛ ولا فاصل من الزمان بين قول الله "كن "؛ وما يكون.

                                                          وقوله: وجعلنا من الماء كل شيء حي كان فيه أدوار أربعة؛ كما قدر العزيز الرحيم؛ ثم قال (تعالى): أفلا يؤمنون الفاء لترتيب التوبيخ بعدم الإيمان على ما قبلها؛ والفاء مؤخرة عن تقديم؛ والمعنى: "فألا تؤمنون؟! "؛ والاستفهام لإنكار الواقع؛ وهو عدم الإيمان؛ وإنكار الواقع بمعنى التوبيخ والتعجب من الكفر؛ مع قيام الأدلة على وجوب الإيمان؛ فالفاء لترتيب التوبيخ على ما بين الله (تعالى) من خلق السماوات والأرض - من خلق الأرض من السماء؛ وخلق الأرض - في ستة أيام.

                                                          وقد بين - سبحانه - الأرض وما يرى فيها بالعين والبصر؛ لا بالعلم والإدراك؛ كما قال (تعالى):

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية