الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وإن سافر إلى بلد يقصر إليه الصلاة ونوى أنه إن لقى عبده أو صديقه في بعض الطريق رجع لم يقصر لأنه لم يقطع على سفر تقصر فيه الصلاة ، وإن [ ص: 216 ] نوى السفر إلى بلد ثم منه إلى بلد آخر فهما سفران فلا يقصر حتى يكون كل واحد منهما مما تقصر فيه الصلاة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال أصحابنا : يشترط للقصر أن يعزم في الابتداء على قطع مسافة القصر ، فلو خرج لطلب آبق أو غريم أو غير ذلك ونوى أنه متى لقيه رجع ولا يعرف موضعه لم يترخص ، وإن طال سفره وبلغ مراحل ، كما سنذكره في الهائم ، إن شاء الله تعالى ، فلو وجده وعزم على الرجوع إلى بلده ، فإن كان بينهما مسافة القصر قصر إذا ارتحل عن ذلك الموضع ، فلو علم في ابتداء السفر موضعه وأنه لا يلقاه قبل مرحلتين جاز القصر ، ولو نوى في الابتداء الخروج في طلب الآبق والغريم ودابته الضالة أو المسروقة وغيرها على أنه لا بد له من وصول الموضع الفلاني وهو مرحلتان سواء وجده قبله أم لا فله القصر بلا خلاف ، نص عليه الشافعي والأصحاب .

                                      ولو نوى مسافة القصر ثم نوى إن وجد الغريم رجع ، فإن عرضت له هذه النية قبل مفارقة عمران البلد لم يترخص ، وإن عرضت بعد مفارقة العمران فوجهان : حكاهما البغوي والرافعي ( أصحهما ) يترخص ما لم يجده ، فإذا وجده صار مقيما لأنه ثبت لسبب الرخصة فلا يتغير حتى يوجد المغير ( والثاني ) : لا يترخص كما لو عرضت النية في العمران .

                                      ولو نوى قصد موضع في مسافة القصر ثم نوى بعد مفارقة العمران الإقامة أربعة أيام فصاعدا في بلد في وسط الطريق ، قال البغوي وغيره : إن كان من مخرجه إلى البلد المتوسط مسافة القصر ترخص قطعا ما لم يدخل المتوسط ، وإن كان أقل فوجهان : ( أصحهما ) يترخص ما لم يدخله لأنه انعقد سبب الرخصة فلا يتغير ما لم يوجد المغير ، فإن نوى أن يقيم في المتوسط دون أربعة أيام فهو سفر واحد فله القصر في جميع طريقه وفي البلد المتوسط بلا خلاف .

                                      أما إذا خرج بنية السفر إلى بلد ثم منه إلى آخر ونوى أن يقيم في الأول أربعة أيام أو نوى بلدا ثم بلدا ثم بلدا ثالثا ورابعا وأكثر بنية الإقامة أربعة أيام في كل مرحلة - فإن كان بين البلد والذي يليه مسافة القصر - قصر وإلا فلا .

                                      [ ص: 217 ] وإن كان بين بلدين منها دون الباقي قصر بين البلدين دون الباقي ، لأنها أسفار متعددة ، ولو نوى بلدا دون مرحلتين ، ثم نوى في أثناء طريقه مجاوزته فابتداء سفره من حين غير النية فإنما يترخص إذا كان من ذلك الموضع إلى المقصد الثاني مرحلتان ، ولو خرج إلى بلد بعيد ثم نوى في طريقه أن يرجع انقطع سفره ، ولا يجوز له القصر ما دام في ذلك الموضع ، فإذا فارقه فقد أنشأ سفرا جديدا فإنما يقصر إذا توجه منه إلى مرحلتين سواء رجع إلى وطنه أو إلى مقصده الأول أو غيرهما ، نص عليه الشافعي في الأم ، واتفق الأصحاب عليه ، ممن صرح به القاضي أبو الطيب والبغوي والرافعي وغيرهم .

                                      قال البغوي : ولو تردد في النية بين أن يرجع أو يمضي صار مقيما في الحال كما لو جزم بالرجوع .

                                      ( فرع ) إذا سافر العبد مع مولاه ، والزوجة مع زوجها ، والجندي مع أميره - ولا يعرفون مقصدهم - قال البغوي والرافعي : لا يجوز لهم الترخص ، فلو نووا مسافة القصر لم تؤثر نية العبد والمرأة فلا يترخصان ، وتؤثر نية الجندي ويترخص ، لأنه ليس تحت يد الأمير وقهره ، بخلاف العبد والمرأة ، فلو عرفوا المقصد ترخصوا كلهم .

                                      قال البغوي : فلو نوى المولى والزوج الإقامة لم يثبت حكمها للعبد والمرأة ، بل لهما الترخص عندنا .

                                      قال : وقال أبو حنيفة : للعبد والمرأة الترخص تبعا للمولى والزوج ، وإن لم يعرفا المقصد ويصيران مقيمين بإقامة المولى والزوج ، ولو أسر الكفار مسلما وسافروا به ولا يعلم أين يذهبون به لم يقصر ، فلو سار معهم يومين قصر بعد ذلك ، نص عليه الشافعي واتفقوا عليه ، أما إذا علم الموضع الذي يذهبون به إليه ، فإن كان نيته أنه إن تمكن من الهرب هرب ، لم يقصر قبل مرحلتين ، وإن نوى قصد ذلك البلد أو غيره ولا معصية في قصده قصر في الحال إن كان بينهما مرحلتان .

                                      وهذا الذي قاله الشافعي والأصحاب في الأسير يتعين مجيئه في مسألة العبد والمرأة والجندي ، فإذا ساروا مرحلتين يقصرون .

                                      وإن لم يعرفوا المقصد .

                                      ولعل البغوي ومن وافقه أرادوا قبل مجاوزة مرحلتين .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : يشترط لجواز القصر للمسافر أن يربط [ ص: 218 ] قصده بمقصد معلوم فأما الهائم الذي لا يدري أين يتوجه ولا له قصد في موضع ، وراكب التعاسيف ، وهو الذي لا يسلك طريقا ولا له مقصد معلوم فلا يترخصان أبدا بقصر ولا غيره من رخص السفر .

                                      وإن طال سفرهما وبلغ مراحل ، فهذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب في كل الطرق .

                                      وحكى الرافعي وجها أنهما إذا بلغا مسافة القصر لهما الترخص بعد ذلك ، وهذا شاذ غريب ضعيف جدا .

                                      قال البغوي وغيره : وكذا البدوي إذا خرج منتجعا .

                                      على أنه متى وجد مكانا معشبا أقام به لم يجز له الترخص .




                                      الخدمات العلمية