الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكرت أحكام النساء وشعبت حتى ضاق فسيح العقل بانتشارها وكاد أن يضيع في متسع مضمارها مع ما هناك من مظنة الميل بالعشق والنفرة بالبغض الحامل على الإحن والشغل بالأولاد وغير ذلك من فتن وبلايا ومحن يضيق عنها نطاق الحصر ويكون بعضها مظنة للتهاون بالصلاة بل وبكل عبادة اقتضى الحال أن يقال: يا رب! إن الإنسان ضعيف وفي بعض ذلك له شاغل عن كل مهم فهل بقي له سعة لعبادتك؟ فقيل: حافظوا بصيغة المفاعلة الدالة على غاية العزيمة أي ليسابق بعضكم بعضا في ذلك ويجوز أن يكون ذلك [ ص: 360 ] بالنسبة إلى العبد وربه فيكون المعنى: احفظوا صلاتكم له ليحفظ صلاته عليكم فلا يفعل فيها فعل الناسي فيترك تشريفكم بها، وأخصر منه أن يقال: لما ذكر سبحانه وتعالى ما بين العباد خاصة ذكر ما بينه وبينهم فقال: -

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحرالي : لما كان ما أنزل له الكتاب إقامة ثلاثة أمور: إقامة أمر الدين الذي هو ما بين العبد وربه، وتمشية حال الدنيا التي هي دار محنة العبد، وإصلاح حال الآخرة والمعاد الذي هو موضع قرار العبد، صار ما يجري ذكره من أحكام تمشية الدنيا غلسا نجوم إنارته أحكام أمر الدين فلذلك مطلع نجوم خطابات الدين أثناء خطابات أمر الدنيا فيكون خطاب الأمر نجما خلال خطابات الحرام والحلال في أمر الدنيا; وإنما كان نجم هذا الخطاب للمحافظة على الصلاة لأن هذا الاشتجار المذكور بين الأزواج فيما يقع من تكره في الأنفس وتشاح في الأموال إنما وقع من تضييع المحافظة على الصلوات لأن الصلاة بركة في الرزق وسلاح على الأعداء وكراهة الشيطان; فهي دافعة للأمور التي منها تتضايق الأنفس وتقبل [ ص: 361 ] الوسواس ويطرقها الشح، فكان في إفهام نجم هذا الخطاب أثناء هذه الأحكام الأمر بالمحافظة على الصلوات لتجري أمورهم على سداد يغنيهم عن الارتباك في جملة هذه الأحكام - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال تعالى: حافظوا

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي : من المحافظة مفاعلة من الحفظ وهو رعاية العمل علما وهيئة ووقتا وإقامة بجميع ما يحصل به أصله ويتم به عمله [ ص: 362 ] وينتهي إليه كماله، وأشار إلى كمال الاستعداد لذلك بأداة الاستعلاء فقال: على الصلوات فجمع وعرف حتى يعم جميع أنواعها، أي افعلوا في حفظها فعل من يناظر آخر فيه فإنه لا مندوحة عنها في حال من الأحوال حتى ولا في حال خوف التلف، فإن في المحافظة عليها كمال صلاح أمور الدنيا والآخرة لا سيما إدرار الأرزاق وإذلال الأعداء وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها و استعينوا بالصبر والصلاة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ولا شك أن اللفظ صالح لدخول صلاة الجنازة فيه، ويزيده وضوحا اكتناف آيتي الوفاة لهذه الآية سابقا ولاحقا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحرالي : إن الله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا على نية الآخرة وأبى أن يعطي الآخرة على نية الدنيا، خلل حال المرء في دنياه ومعاده إنما هو عن خلل حال دينه، وملاك دينه وأساسه إيمانه وصلاته، فمن حافظ على الصلوات أصلح الله حال دنياه وأخراه، وفي المحافظة عليها تجري مقتضيات عملها عملا إسلاميا وخشوعا وإخباتا إيمانيا ورؤية وشهودا إحسانيا فبذلك تتم المحافظة عليها، وأول ذلك [ ص: 363 ] الطهارة لها باستعمال الطهور على حكم السنة وتتبع معاني الحكمة، كما في مسح الأذنين مع الرأس، لأن من فرق بينهما لم يكد يتم له طهور نفسه بما أبدته الحكمة وأقامته السنة وعمل العلماء فصد عنه عامة الخلق الغفلة; ثم التزام التوبة عندها لأن طهور القلب التوبة كما أن طهور البدن والنفس الماء والتراب، فمن صلى على غير تجديد توبة صلى محدثا بغير طهارة; ثم حضور القلب في التوحيد عند الأذان والإقامة فإن من غفل قلبه عند الأذان والإقامة عن التوحيد نقص من صلاته روحها فلم يكن لها عمود قيام، من حضر قلبه عند الأذان والإقامة حضر قلبه في صلاته، ومن غفل قلبه عندهما غفل قلبه في صلاته; ثم هيئتها في تمام ركوعها وسجودها وإنطاق كل ركن عملي بذكر الله يختص به أدنى ما يكون ثلاثا فليس في الصلاة عمل لا نطق له; ولا يقبل الله صلاة من لم يقم صلبه في ركوعه وسجوده وقيامه وجلوسه; فبالنقص من تمامها تنقص المحافظة عليها وبتضييع المحافظة عليها يتملك الأعداء النفس ويلحقها الشح فتنتقل عليها الأحكام وتتضاعف عليها مشاق الدنيا، وما من عامل يعمل عملا في وقت صلاة أو حال أذان إلا كان وبالا عليه وعلى من ينتفع به من عمله، وكان ما يأخذه من أجر فيه [ ص: 364 ] شقى خبث لا يثمر له عمل بر ولا راحة نفس في عاجلته ولا آجلته، وخصوصا بعد أن أمهل الله الخلق من طلوع شمس يومهم إلى زوالها ست ساعات فلم يكن لدنياهم حق في الست الباقية فكيف إذا طولبوا منها بأويقات الأذان والصلاة وما نقص عمل من صلاة، فبذلك كانت المحافظة على الصلوات ملاكا لصلاح أحوال الخلق مع أزواجهم في جميع أحوالهم - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      والصلاة الوسطى أي خصوصا فإنها أفضل الصلوات لأنها أخصها بهذا النبي الخاتم كما مضى بيانه في أول السورة في قوله: استعينوا بالصبر والصلاة فخصها سبحانه وتعالى بمزيد تأكيد وأخفاها لأداء ذلك إلى المحافظة على الكل ولهذا السبب أخفى ليلة القدر في رمضان، وساعة الإجابة في يوم الجمعة، والاسم الأعظم في جميع الأسماء، ووقت الموت حملا على التوبة في كل لحظة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحرالي : وما من جملة إلا ولها زهرة فكان في الصلوات ما هو منها بمنزلة الخيار من الجملة وخيارها وسطاها فلذلك خصص تعالى خيار الصلوات بالذكر، وذكرها بالوصف إبهاما ليشمل الوسطى الخاصة بهذه الأمة وهي العصر التي لم تصح لغيرها من الأمم، ولينتظم [ ص: 365 ] الوسطى العامة لجميع الأمم ولهذه الأمة التي هي الصبح، ولذلك اتسع لموضع أخذها بالوصف مجال العلماء فيها ثم تعدت أنظارهم إلى جميعها لموقع الإبهام في ذكرها حتى تتأكد المحافظة في الجميع بوجه ما، وفي قراءة عائشة رضي الله تعالى عنها: وصلاة العصر - عطفا ما يشعر بظاهر العطف باختصاص الوسطى بالصبح على ما رآه بعض العلماء، وفيه مساغ لمرجعه على " الصلاة الوسطى " بنفسها ليكون عطف أوصاف، وتكون تسميتها بالعصر مدحة ووصفا من حيث إن العصر خلاصة الزمان كما أن عصارات الأشياء خلاصاتها

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون فعصر اليوم هو خلاصة لسلامته من وهج الهاجرة وغسق الليل، ولتوسط الأحوال والأبدان والأنفس بين حاجتي الغداء والعشاء التي هي مشغلتهم بحاجة الغذاء; ومن إفصاح العرب عطف الأوصاف المتكاملة فيقال: فلان كريم وشجاع - إذا تم فيه الوصفان، فإذا نقصا عن التمام قيل: كريم شجاع - بالاتباع، فبذلك يقبل معنى هذه القراءة أن تكون الوسطى هي العصر عطفا لوصفين ثابتين لأمر واحد - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ويوضح ما قاله رحمه الله تعالى قولهم في الرمان المز: حلو حامض - من غير عطف، [ ص: 366 ] وبرهانه أنهم قالوا: إن الجمل إذا تتابعت من غير عطف كان ذلك مؤذنا بتمام الاتصال بينها فتكون الثانية إما علة للأولى وإما مستأنفة على تقدير سؤال سائل ونحو ذلك مما قاله البيانيون في باب الفصل والوصل، ولولا إشعار الكلام الأول بالجملة الثانية لاحتياجه إليها لم يوجد محرك للسؤال بخلاف ما إذا تعاطفت كان ذلك يؤذن بأن كل واحدة منها غنية عما بعدها وذلك مؤذن بالتمام: وأما أسماء الله تعالى فتتابعها دون عطف، لأن شيئا منها لا يؤدي جميع مفهوم اسم الذات العلم ولذلك ختم سبحانه وتعالى آيات سورة الحشر بقوله: له الأسماء الحسنى أي أن هذه الأسماء التي ذكرت هي مما أفهمه مدلول الاسم العلم المبتدأ به سواء قلنا إنه مشتق أو لا، ومهما اطلعت على وصف حسن يليق به سبحانه وتعالى فهو مما دل عليه الاسم الأعظم، لأن من يستحق العبادة لا يكون إلا كذلك جامعا لأوصاف الكمال، أو لأنه لما جبلت النفوس وطبعت القلوب على المعرفة بأنه سبحانه وتعالى منزه عن شوائب النقص ومتصف بأوصاف الكمال كان الإعراء من العطف فيها للإيذان بذلك وما عطف منها فلمعنى دعا إليه كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في مواضعه، وأنا لا أشك أن المعطل إذا وقع في ضيق أخرجه ودهمه من البلاء ما أعجزه وأحرق [ ص: 367 ] قلبه وأجرى دمعه التفت قلبه ضرورة إلى الله سبحانه وتعالى في كشفه وضرع إليه في إزالته لما ركز في جبلته من كماله وعظمته وجلاله ذاهلا عما تكسبه من قرناء السوء من سوء الاعتقاد وجر نفسه إليه من العناد - والله سبحانه وتعالى أعلم; فدونك قاعدة نفيسة طال ما تطلبتها وسألت عنها الفضلاء فما وجدتها وضربت بفكري في رياض الفنون ومهامه العلوم حتى تصورتها ثم بعد فراغي من تفسيري رأيت الكشاف أشار إليها في آية والمستغفرين بالأسحار في آل عمران - والله سبحانه وتعالى الموفق.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أمر بالمحافظة عليها أتبعه جامع ذلك فقال: وقوموا لله أي الذي له الجلال والإكرام قانتين أي مطيعين - قاله الحسن وسعيد بن جبير والشعبي وعطاء وقتادة وطاوس .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الطبراني في الأوسط والإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل حرف ذكر من القنوت في القرآن فهو الطاعة وقيل: القنوت السكوت، ففي الصحيحين عن زيد بن أرقم رضي الله [ ص: 368 ] تعالى عنه قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في حاجته حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد : خاشعين، وقيل غير ذلك; وإذا علم أصل معنى هذه الكلمة لغة علم أن المراد: مخلصين، وإليه يرجع جميع ما قالوه، وذلك أن مادة قنت بأي ترتيب كان تدور على الضمور من القتين للقليل اللحم والطعم، وقتن المسك إذا يبس، فيلزمه الاجتذاب والخلوص، فإنه لولا تجاذب الأجزاء لزوال ما بينها من المانع لم يضمر، ومنه امرأة ناتق إذا كانت ولودا كأنها تجتذب المني كله فتظفر بما يكون منه الولد، أو أنه لما كان المقصود الأعظم من الجماع الولد كانت كأنها المختصة بجذب المني وكأن اجتذاب غيرها عدم، أو كأنها تجتذب الولد من رحمها فتخرجه، وذلك من نتق السقاء وهو نفضه، حتى يقتلع ما فيه فيخلص، ومن [ ص: 369 ] ذلك: البيت المعمور نتاق الكعبة ، أي مطل عليها من فوق فلو أنه جاذب شيئا من الأرض لكان إياها لأنه تجاهها، ومن الضمور: التقن - لرسابة الماء; وهو الكدر الذي يبقى في الحوض فإنه متهيئ لاجتذاب العكولة; ويلزم الضمور الإحكام لجودة التراص في الأجزاء لخلوصها عن مانع، ومنه: أمر متقن، أي محكم، و: رجل تقن - إذا كان حاذقا بالأشياء، فهو خالص الرأي; ويلزمه الإخلاص والخشوع والتواضع فتأتي الطاعة بالدعاء وغيره فإنها جمع الهم على المطاع أمن هو قانت آناء الليل ونحو ذلك، والتقن أيضا الطبيعة فإنها سر الشيء وخالصه، ومنه الفصاحة من: تقن فلان، أي طبعه; ويلزم الضمور القيام فإنه ضمور بالنسبة إلى بقية الهيئات; ومنه: أفضل الصلاة طول القنوت.

                                                                                                                                                                                                                                      والسكوت ضمور بالنسبة إلى الكلام; ويلزم الضمور اليبس والذبول ومنه التقن للطين الذي يذهب عنه الماء فييبس ويتشقق; والقلة ومنه: قراد قتين، أي قليل الدم، فيأتي أيضا السكوت والإحكام; وإذا راجعت معاني هذه المادة وهي قنت وقتن وتقن ونتق من كتب اللغة ازددت بصيرة في هذا، وإذا علم ذلك علم [ ص: 370 ] أن الآية منطبقة على الحديث محتملة لجميع أقوال العلماء رضي الله تعالى عنهم، وذلك أن الصلاة إذا أخلصت لم يكن فيها قول ولا فعل ليس منها وذلك محض الطاعة والخشوع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحرالي : القنوت الثبات على أمر الخير وفعله، وذلك أن فعل الخير والبر يسير على الأكثر ولكن الثبات والدوام عسير عليهم، وكان من القنوت مداومة الحق فيما جاء به في الصلاة حتى لا يقع التفات للخلق، فلذلك لزم الصمت عن الخلق من معناه، لأن كلام الناس قطع لدوام المناجاة، ففي إشعاره أن من قام لله سبحانه وتعالى قانتا في صلاته أقام الله سبحانه وتعالى في دنياه حاله في إقامته ومع أهله، كما يشير إليه معنى آية وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك ففيه إيذان بأن الصلاة تصلح الحال مع الأهل وتستدر البركة في الرزق - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وحديث زيد هذا صريح في أن الصلاة في أول الأمر لم تكن على الحدود التي صارت إليها آخرا; فيحتمل أن الفعل كان مباحا فيها كما كان الكلام، ويؤيده أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي نص بالمنع، وبهذا يزول ما في حديث ذي اليدين من الإشكال من أنه يقتضي إباحة القول والفعل للمصلي إذا ظن [ ص: 371 ] أنه أكمل الصلاة أو نسي أنه فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فسلم من ركعتين ثم قام إلى خشبة في ناحية المسجد فاتكأ عليها وخرج سرعان الناس، فلما أعلمه ذو اليدين بالحال سأل الناس فصدقوه، فرجع فأكمل الصلاة فإن الحديث غير مؤرخ فيحتمل أنه كان قبل تحريم الأفعال والأقوال بهذه الآية. ويؤيد احتمال إباحة الأفعال أولا اتباع الآية بقوله تعالى: فإن خفتم أي بحال من أحوال الجهاد الذي تقدم أنه " كتب عليكم " أو نحو ذلك من عدو أو سبع أو غريم يجوز الهرب منه أو غير ذلك فرجالا أي قائمين على الأرجل، وهو جمع راجل من حيث إنه أقرب إلى صورة الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال البغوي : أي إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها لخوف فصلوا مشاة على أرجلكم أو ركبانا أي كائنين على ظهور الدواب على هيئة التمكن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحرالي : ما من حكم شرعه الله في السعة إلا وأثبته في الضيق والضرورة [ ص: 372 ] بحيث لا يفوت في ضيقه بركة من حال سعته ليعلم أن فضل الله لا ينقصه وقت ولا يفقده حال، وفيه إشعار بأن المحافظة على الصلاة في التحقيق ليس إلا في إقبال القلب بالكلية على الرب، فما اتسع له الحال ما وراء ذلك فعل وإلا اكتفى بحقيقتها، ولذلك انتهت الصلاة عند العلماء في شدة الخوف إلى تكبيرة واحدة يجتمع إليها وحدها بركة أربع الركعات التي تقع في السعة، وفيها على حالها من البركة في اتساع الرزق وصلاح الأهل ما في الواقعة في السعة مع [ ص: 373 ] معالجة النصرة لعزيمة إقامتها على الإمكان في المخافة، وقد وضح باختلاف أحوال صلاة الخوف أن حقيقتها أنها لا صورة لها، فقد صح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة صورة وزيادة صور في الأحاديث الحسان - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى البخاري في التفسير عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كيفية في صلاة الخوف ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني لأن مثل ذلك لا يقال من قبل الرأي فإذا أمنتم أي حصل لكم الأمن مما كان أخافكم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المراد الأعظم من الصلاة الذكر وهو دوام حضور القلب قال مشيرا إلى أن صلاة الخوف يصعب فيها ذلك منبها بالاسم الأعظم على ما يؤكد الحضور في الصلاة وغيرها من كل ما يسمى ذكرا فاذكروا الله أي الذي له الأمر كله. قال البغوي : أي فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحرالي : أظهر المقصد في عمل الصلاة وأنه [ ص: 374 ] إنما هو الذكر الذي هو قيام الأمن والخوف - انتهى: فكأنه سبحانه وتعالى لما منع مما ليس من الصلاة من الأقوال والأفعال استثنى الأفعال حال الخوف فأبقيت على الأصل لكن قد روى الشافعي رضي الله تعالى عنه وصرحه في كتاب اختلاف الحديث من الأم وأبو داود والنسائي من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة - الحديث في أنه لما رجع من الحبشة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة وحكم بأنه قيل حديث ذي اليدين لما في بعض طرقه مما يقتضي أن رجوعه كان قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو كذلك، لكن عاصم له أوهام في الحديث وإن كان حجة في القراءة فلا يقوى حديثه لمعارضة ما في الصحيحين من حديث زيد الماضي المغيا بنزول الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      والبقرة مدنية كما في الصحيح في فضائل القرآن عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه في النكاح وغيره أنه صلى الله عليه وسلم بنى بها وهي بنت تسع سنين وأقامت عنده تسعا، فيكون ذلك في السنة الثانية من الهجرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال [ ص: 375 ] الشافعي رضي الله تعالى عنه في الرسالة في باب وجه آخر من الناسخ والمنسوخ: أخبرنا محمد بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: حبسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب يهوي من الليل حتى كفينا وذلك قول الله سبحانه وتعالى: وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمره فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أيضا; وذلك قبل أن ينزل الله تعالى في صلاة الخوف فإن خفتم فرجالا أو ركبانا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى الشيخان أيضا حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بلفظ: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال: إن في الصلاة شغلا لكنه ليس صريحا في تحريم الكلام فيعود الاحتمال السابق، فإن كان الواقع أن حديث زيد متأخر كان ما قلت وإلا كان الذي ينبغي القول به أنه لا فرق بين القول والفعل لأن اشتمال حديث ذي اليدين عليهما على حد سواء، كما صححه صاحب التتمة من أصحاب الشافعي [ ص: 376 ] ونقل عن اختيار الشيخ محيي الدين النواوي في كتابه التحقيق وتبعه عليه السبكي وغيره من المتأخرين، وكلام الشافعي ظاهر فيه فإنه قال في الرد على من نسبه إلى أنه خالف في التفريع على الحديث المذكور: فأنت خالفت أصله وفرعه ولم نخالف نحن من أصله ولا من فرعه حرفا واحدا - هذا نصه في كتاب الرسالة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أمر سبحانه وتعالى بالذكر عند الأمن علله بقوله: كما علمكم أي لأجل إنعامه عليكم بأن خلق فيكم العلم المنقذ من الجهل، فتكون الكاف للتعليل وقد جوزه أبو حيان في النهر ونقله في موضع آخر منه عن النحاة - والله سبحانه وتعالى أعلم ما لم تكونوا تعلمون بما آتاكم على لسان هذا النبي الكريم من الأحكام التي تقدمت في هذه السورة المفصلة ببدائع الأسرار من الأصول ودقائق العلوم كلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحرالي : من أحكام هيئة الصلاة في الأعضاء [ ص: 377 ] والبدن وحالها في النفس من الخشوع والإخبات والتخلي من الوسواس وحالها في القلب من التعظيم والحرمة، وفي إشارته ما وراء ظاهر العلم من أسرار القلوب التي اختصت بها أئمة هذه الأمة - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية