(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن
nindex.php?page=treesubj&link=28786_28785الضلال والهداية من الله تعالى .
واعلم أن هذه الآية كما أن لفظها يدل على قولنا ، فلفظها أيضا يدل على الدليل القاطع العقلي الذي في هذه المسألة ، وبيانه أن
nindex.php?page=treesubj&link=28785_29658العبد قادر على الإيمان وقادر على الفكر ، فقدرته بالنسبة إلى هذين الأمرين حاصلة على السوية ، فيمتنع صدور الإيمان عنه بدلا من الكفر أو الكفر بدلا من الإيمان ، إلا إذا حصل في القلب داعية إليه ، وقد بينا ذلك مرارا كثيرة في هذا الكتاب ، وتلك الداعية لا معنى لها إلا علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملا على مصلحة زائدة ومنفعة راجحة ، فإنه إذا حصل هذا المعنى في القلب دعاه ذلك إلى فعل ذلك الشيء ، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظن بكون ذلك الفعل مشتملا على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه ، وبينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي لا بد وأن يكون من الله تعالى ، وأن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل .
إذا ثبت هذا فنقول : يستحيل أن يصدر الإيمان عن العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة زائد المصلحة ، وإذا حصل في القلب هذا الاعتقاد مال القلب ، وحصل في النفس رغبة شديدة في تحصيله ، وهذا هو انشراح الصدر للإيمان . فأما إذا حصل في القلب اعتقاد أن الإيمان
بمحمد مثلا سبب مفسدة عظيمة في الدين والدنيا ، ويوجب المضار الكثيرة فعند هذا يترتب على حصول هذا الاعتقاد نفرة شديدة عن الإيمان
بمحمد عليه الصلاة والسلام ، وهذا هو المراد من أنه تعالى يجعل صدره ضيقا حرجا ، فصار تقدير الآية : أن من أراد الله تعالى منه الإيمان قوى دواعيه إلى الإيمان ، ومن أراد الله منه الكفر
[ ص: 146 ] قوى صوارفه عن الإيمان ، وقوى دواعيه إلى الكفر . ولما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك ، ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية ، وإذا انطبق قاطع البرهان على صريح لفظة القرآن ، فليس وراءه بيان ولا برهان . قالت
المعتزلة : لنا في هذه الآية مقامان :
المقام الأول : بيان أنه لا دلالة في هذه الآية على قولكم .
المقام الثاني : مقام التأويل المطابق لمذهبنا وقولنا .
أما المقام الأول : فتقريره من وجوه :
الوجه الأول : أن هذه الآية ليس فيها أنه تعالى أضل قوما أو يضلهم؛ لأنه ليس فيها أكثر من أنه متى أراد أن يهدي إنسانا فعل به كيت وكيت ، وإذا أراد إضلاله فعل به كيت وكيت ، وليس في الآية أنه تعالى يريد ذلك أو لا يريده . والدليل عليه أنه تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=17لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ) [ الأنبياء : 17 ] فبين تعالى أنه يفعل اللهو لو أراده ، ولا خلاف أنه تعالى لا يريد ذلك ولا يفعله .
الوجه الثاني : أنه تعالى لم يقل : ومن يرد أن يضله عن الإسلام ، بل قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125ومن يرد أن يضله ) فلم قلتم إن المراد ؟ ومن يرد أن يضله عن الإيمان .
والوجه الثالث : أنه تعالى بين في آخر الآية أنه إنما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره ، وأنه ليس ذلك على سبيل الابتداء ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) .
الوجه الرابع : أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) فهذا يشعر بأن جعل الصدر ضيقا حرجا يتقدم حصوله على حصول الضلالة ، وأن لحصول ذلك المتقدم أثرا في حصول الضلال وذلك باطل بالإجماع . أما عندنا : فلا نقول به . وأما عندكم : فلأن المقتضى لحصول الجهل والضلال هو أن الله تعالى يخلقه فيه لقدرته . فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن هذه الآية لا تدل على قولكم .
أما المقام الثاني : وهو أن تفسير هذه الآية على وجه يليق بقولنا ، فتقريره من وجوه :
الأول : وهو الذي اختاره
الجبائي ، ونصره القاضي ، فنقول : تقدير الآية : ومن يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة ، يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه ، ولا يزول عنه ، وتفسير هذا الشرح هو أنه تعالى يفعل به ألطافا تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه ، وفي هذا النوع ألطاف لا يمكن فعلها بالمؤمن ، إلا بعد أن يصير مؤمنا ، وهي بعد أن يصير الرجل مؤمنا يدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=11ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) [ التغابن : 11 ] وبقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=69والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [ العنكبوت : 69 ] فإذا آمن عبد وأراد الله ثباته فحينئذ يشرح صدره ، أي يفعل به الألطاف التي تقتضي ثباته على الإيمان ودوامه عليه . فأما إذا كفر وعاند ، وأراد الله تعالى أن يضله عن طريق الجنة ، فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج . ثم سأل
الجبائي نفسه وقال : كيف يصح ذلك ونجد الكفار طيبي النفوس لا غم لهم البتة ولا حزن ؟
وأجاب عنه : بأنه تعالى لم يخبر بأنه يفعل بهم ذلك في كل وقت فلا يمتنع كونهم في بعض الأوقات طيبي القلوب . وسأل القاضي نفسه على هذا الجواب سؤالا آخر فقال : فيجب أن تقطعوا في كل كافر بأنه
[ ص: 147 ] يجد من نفسه ذلك الضيق والحرج في بعض الأوقات .
وأجاب عنه بأن قال : وكذلك نقول ، ودفع ذلك لا يمكن خصوصا عند ورود أدلة الله تعالى وعند ظهور نصرة الله للمؤمنين ، وعند ظهور الذلة والصغار فيهم ، هذا غاية تقرير هذا الجواب .
والوجه الثاني : في التأويل قالوا لم لا يجوز أن يقال : المراد فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام ؟ أي يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة؛ لأنه لما رأى أن بسبب الإيمان وجد هذه الدرجة العالية ، والمرتبة الشريفة يزداد رغبة في الإيمان ، ويحصل في قلبه مزيد انشراح وميل إليه ، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ، ففي ذلك الوقت يضيق صدره ، ويحرج صدره بسبب الحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنة والدخول في النار . قالوا : فهذا وجه قريب واللفظ محتمل له ، فوجب حمل اللفظ عليه .
والوجه الثالث في التأويل أن يقال : حصل في الكلام تقديم وتأخير ، فيكون المعنى من شرح صدر نفسه بالإيمان فقد أراد الله أن يهديه أي يخصه بالألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان ، أو يهديه بمعنى أنه يهديه إلى طريق الجنة ، ومن جعل صدره ضيقا حرجا عن الإيمان ، فقد أراد الله أن يضله عن طريق الجنة ، أو يضله بمعنى أنه يحرمه عن الألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان ، فهذا هو مجموع كلامهم في هذا الباب .
والجواب عما قالوه أولا : من أن الله تعالى لم يقل في هذه الآية أنه يضله ، بل المذكور فيه أنه لو أراد أن يضله لفعل كذا وكذا .
فنقول: قوله تعالى في آخر الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) تصريح بأنه يفعل بهم ذلك الإضلال لأن حرف " الكاف " في قوله : ( كذلك ) يفيد التشبيه ، والتقدير : وكما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره ، فكذلك نجعل الرجس على قلوب الذين لا يؤمنون .
والجواب عما قالوه ثانيا وهو قوله : ومن يرد الله أن يضله عن الدين .
فنقول : إن قوله في آخر الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) تصريح بأن المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125ومن يرد أن يضله ) هو أنه يضله عن الدين .
والجواب عما قالوه ثالثا : من أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) يدل على أنه تعالى إنما يلقي ذلك الضيق والحرج في صدورهم جزاء على كفرهم .
فنقول : لا نسلم أن المراد ذلك ، بل المراد كذلك يجعل الله الرجس على قلوب الذين قضي عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وإذا حملنا هذه الآية على هذا الوجه ، سقط ما ذكروه .
والجواب عما قالوه رابعا : من أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون ضيق الصدر وحرجه شيئا متقدما على الضلال وموجبا له .
فنقول : الأمر كذلك؛ لأنه تعالى إذا خلق في قلبه اعتقادا بأن الإيمان
بمحمد صلى الله عليه وسلم يوجب الذم في الدنيا والعقوبة في الآخرة ، فهذا الاعتقاد يوجب إعراض النفس ونفور القلب عن قبول ذلك الإيمان ويحصل في ذلك القلب نفرة ونبوة عن قبول ذلك الإيمان ، وهذه الحالة شبيهة بالضيق الشديد ؛ لأن الطريق إذا كان ضيقا
[ ص: 148 ] لم يقدر الداخل على أن يدخل فيه ، فكذلك القلب إذا حصل فيه هذا الاعتقاد امتنع دخول الإيمان فيه ، فلأجل حصول هذه المشابهة من هذا الوجه ، أطلق لفظ الضيق والحرج عليه ، فقد سقط هذا الكلام .
وأما الوجه الأول : من التأويلات الثلاثة التي ذكروها .
فالجواب عنه : أن حاصل ذلك الكلام يرجع إلى تفصيل الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر ، وهذا بعيد؛ لأنه تعالى ميز الكافر عن المؤمن بهذا الضيق والحرج ، فلو كان المراد منه حصول الغم والحزن في قلب الكافر ، لوجب أن يكون ما يحصل في قلب الكافر من الغموم والهموم والأحزان أزيد مما يحصل في قلب المؤمن زيادة يعرفها كل أحد ، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، بل الأمر في حزن الكافر والمؤمن على السوية ، بل الحزن والبلاء في حق المؤمن أكثر . قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=33ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ) [ الزخرف : 33 ] وقال عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012654خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل " .
وأما الوجه الثاني من التأويلات الثلاثة فهو أيضا مدفوع؛ لأنه يرجع حاصله إلى إيضاح الواضحات ؛ لأن كل أحد يعلم بالضرورة أن كل من هداه الله تعالى إلى الجنة بسبب الإيمان فإنه يفرح بسبب تلك الهداية وينشرح صدره للإيمان مزيد انشراح في ذلك الوقت . وكذلك القول في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125ومن يرد أن يضله ) [ الزخرف : 33 ] المراد من يضله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت فإن حصول هذا المعنى معلوم بالضرورة ، فحمل الآية عليه إخراج لهذه الآية من الفائدة .
وأما الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة ، فهو يقتضي تفكيك نظم الآية ، وذلك لأن الآية تقتضي أن يحصل انشراح الصدر من قبل الله أولا ، ثم يترتب عليه حصول الهداية والإيمان ، وأنتم عكستم القضية فقلتم : العبد يجعل نفسه أولا منشرح الصدر ، ثم إن الله تعالى بعد ذلك يهديه ، بمعنى أنه يخصه بمزيد الألطاف الداعية له إلى الثبات على الإيمان ، والدلائل اللفظية إنما يمكن التمسك بها إذا أبقينا ما فيها من التركيبات والترتيبات فأما إذا أبطلناها وأزلناها لم يمكن التمسك بشيء منها أصلا ، وفتح هذا الباب يوجب أن لا يمكن التمسك بشيء من الآيات ، وإنه طعن في القرآن وإخراج له عن كونه حجة ، فهذا هو الكلام الفصل في هذه السؤالات ، ثم إنا نختم الكلام في هذه المسألة بهذه الخاتمة القاهرة ، وهي أنا بينا أن فعل الإيمان يتوقف على أن يحصل في القلب داعية جازمة إلى فعل الإيمان ، وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى ، وكذلك القول في جانب الكفر ، ولفظ الآية منطبق على هذا المعنى ؛ لأن تقدير الآية فمن يرد الله أن يهديه قوى في قلبه ما يدعوه إلى الإيمان ، ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر ، وقد ثبت بالبرهان العقلي أن الأمر يجب أن يكون كذلك ، وعلى هذا التقدير : فجميع ما ذكرتموه من السؤالات ساقط ، والله تعالى أعلم بالصواب .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ )
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28786_28785الضَّلَالَ وَالْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا أَنَّ لَفْظَهَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا ، فَلَفْظُهَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28785_29658الْعَبْدَ قَادِرٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَقَادِرٌ عَلَى الْفِكْرِ ، فَقُدْرَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَاصِلَةٌ عَلَى السَّوِيَّةِ ، فَيَمْتَنِعُ صُدُورُ الْإِيمَانِ عَنْهُ بَدَلًا مِنَ الْكُفْرِ أَوِ الْكُفْرِ بَدَلًا مِنَ الْإِيمَانِ ، إِلَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا عِلْمُهُ أَوِ اعْتِقَادُهُ أَوْ ظَنُّهُ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ زَائِدَةٍ وَمَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ ، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقَلْبِ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ، وَإِنْ حَصَلَ فِي الْقَلْبِ عِلْمٌ أَوِ اعْتِقَادٌ أَوْ ظَنٌّ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى ضَرَرٍ زَائِدٍ وَمَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى تَرْكِهِ ، وَبَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الدَّوَاعِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ .
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصْدُرَ الْإِيمَانُ عَنِ الْعَبْدِ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ اعْتِقَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ رَاجِحُ الْمَنْفَعَةِ زَائِدُ الْمَصْلَحَةِ ، وَإِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ هَذَا الِاعْتِقَادُ مَالَ الْقَلْبُ ، وَحَصَلَ فِي النَّفْسِ رَغْبَةٌ شَدِيدَةٌ فِي تَحْصِيلِهِ ، وَهَذَا هُوَ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ لِلْإِيمَانِ . فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ اعْتِقَادُ أَنَّ الْإِيمَانَ
بِمُحَمَّدٍ مَثَلًا سَبَبُ مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَيُوجِبُ الْمَضَارَّ الْكَثِيرَةَ فَعِنْدَ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حُصُولِ هَذَا الِاعْتِقَادِ نَفْرَةٌ شَدِيدَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ
بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : أَنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ الْإِيمَانَ قَوَّى دَوَاعِيَهُ إِلَى الْإِيمَانِ ، وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ الْكُفْرَ
[ ص: 146 ] قَوَّى صَوَارِفَهُ عَنِ الْإِيمَانِ ، وَقَوَّى دَوَاعِيَهُ إِلَى الْكُفْرِ . وَلَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ، ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ ، وَإِذَا انْطَبَقَ قَاطِعُ الْبُرْهَانِ عَلَى صَرِيحِ لَفْظَةِ الْقُرْآنِ ، فَلَيْسَ وَرَاءَهُ بَيَانٌ وَلَا بُرْهَانٌ . قَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقَامَانِ :
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : بَيَانُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِكُمْ .
الْمَقَامُ الثَّانِي : مَقَامُ التَّأْوِيلِ الْمُطَابِقِ لِمَذْهَبِنَا وَقَوْلِنَا .
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : فَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَضَلَّ قَوْمًا أَوْ يُضِلُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَنْ يَهْدِيَ إِنْسَانًا فَعَلَ بِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ ، وَإِذَا أَرَادَ إِضْلَالَهُ فَعَلَ بِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ ذَلِكَ أَوْ لَا يُرِيدُهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=17لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 17 ] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَفْعَلُ اللَّهْوَ لَوْ أَرَادَهُ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ ذَلِكَ وَلَا يَفْعَلُهُ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ ، بَلْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ ) فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمُرَادَ ؟ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ بِهَذَا الْكَافِرِ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ) فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ جَعْلَ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا يَتَقَدَّمُ حُصُولُهُ عَلَى حُصُولِ الضَّلَالَةِ ، وَأَنَّ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمِ أَثَرًا فِي حُصُولِ الضَّلَالِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . أَمَّا عِنْدَنَا : فَلَا نَقُولُ بِهِ . وَأَمَّا عِنْدَكُمْ : فَلِأَنَّ الْمُقْتَضَى لِحُصُولِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُهُ فِيهِ لِقُدْرَتِهِ . فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ .
أَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِقَوْلِنَا ، فَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ
الْجًبَّائِيُّ ، وَنَصَرَهُ الْقَاضِي ، فَنَقُولُ : تَقْدِيرُ الْآيَةِ : وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ ، يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ حَتَّى يَثْبُتَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَزُولَ عَنْهُ ، وَتَفْسِيرُ هَذَا الشَّرْحِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِ أَلْطَافًا تَدْعُوهُ إِلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ أَلْطَافٌ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا بِالْمُؤْمِنِ ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا ، وَهِيَ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا يَدْعُوهُ إِلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=11وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) [ التَّغَابُنِ : 11 ] وَبِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=69وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) [ الْعَنْكَبُوتِ : 69 ] فَإِذَا آمَنَ عَبْدٌ وَأَرَادَ اللَّهُ ثَبَاتَهُ فَحِينَئِذٍ يَشْرَحُ صَدْرَهُ ، أَيْ يَفْعَلُ بِهِ الْأَلْطَافَ الَّتِي تَقْتَضِي ثَبَاتَهُ عَلَى الْإِيمَانِ وَدَوَامَهُ عَلَيْهِ . فَأَمَّا إِذَا كَفَرَ وَعَانَدَ ، وَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُلْقِي فِي صَدْرِهِ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ . ثُمَّ سَأَلَ
الْجُبَّائِيُّ نَفْسَهُ وَقَالَ : كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَنَجِدُ الْكُفَّارَ طَيِّبِي النُّفُوسَ لَا غَمَّ لَهُمُ الْبَتَّةَ وَلَا حَزَنَ ؟
وَأَجَابَ عَنْهُ : بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ طَيِّبِي الْقُلُوبِ . وَسَأَلَ الْقَاضِي نَفْسَهُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ سُؤَالًا آخَرَ فَقَالَ : فَيَجِبُ أَنْ تَقْطَعُوا فِي كُلِّ كَافِرٍ بِأَنَّهُ
[ ص: 147 ] يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ .
وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ : وَكَذَلِكَ نَقُولُ ، وَدَفْعُ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ خُصُوصًا عِنْدَ وُرُودِ أَدِلَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ ظُهُورِ نُصْرَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَعِنْدَ ظُهُورِ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ فِيهِمْ ، هَذَا غَايَةُ تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي التَّأْوِيلِ قَالُوا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الْجَنَّةِ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ؟ أَيْ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَهْدِيهِ فِيهِ إِلَى الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَجَدَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ ، وَالْمَرْتَبَةَ الشَّرِيفَةَ يَزْدَادُ رَغْبَةً فِي الْإِيمَانِ ، وَيَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ مَزِيدُ انْشِرَاحٍ وَمَيْلٍ إِلَيْهِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ ، فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يُضَيِّقُ صَدْرَهُ ، وَيُحْرِجُ صَدْرَهُ بِسَبَبِ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ الَّذِي نَالَهُ عِنْدَ الْحِرْمَانِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالدُّخُولِ فِي النَّارِ . قَالُوا : فَهَذَا وَجْهٌ قَرِيبٌ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ : حَصَلَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَنْ شَرَحَ صَدْرَ نَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أَيْ يَخُصَّهُ بِالْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ ، أَوْ يَهْدِيَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَهْدِيهِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ ، وَمَنْ جُعِلَ صَدْرُهُ ضَيِّقًا حَرَجًا عَنِ الْإِيمَانِ ، فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ ، أَوْ يُضِلَّهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرِمُهُ عَنِ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ ، فَهَذَا هُوَ مَجْمُوعُ كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ أَوَّلًا : مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُضِلُّهُ ، بَلِ الْمَذْكُورُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُ لَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا .
فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ الْإِضْلَالَ لِأَنَّ حَرْفَ " الْكَافِ " فِي قَوْلِهِ : ( كَذَلِكَ ) يُفِيدُ التَّشْبِيهَ ، وَالتَّقْدِيرُ : وَكَمَا جَعَلْنَا ذَلِكَ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي صَدْرِهِ ، فَكَذَلِكَ نَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ .
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُهُ : وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الدِّينِ .
فَنَقُولُ : إِنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ ) هُوَ أَنَّهُ يُضِلُّهُ عَنِ الدِّينِ .
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ ثَالِثًا : مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُلْقِي ذَلِكَ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي صُدُورِهِمْ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ .
فَنَقُولُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ ، بَلِ الْمُرَادُ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ قُضِيَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ، وَإِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، سَقَطَ مَا ذَكَرُوهُ .
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ رَابِعًا : مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ضِيقُ الصَّدْرِ وَحَرَجُهُ شَيْئًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الضَّلَالِ وَمُوجِبًا لَهُ .
فَنَقُولُ : الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ فِي قَلْبِهِ اعْتِقَادًا بِأَنَّ الْإِيمَانَ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِبُ الذَّمَّ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ ، فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يُوجِبُ إِعْرَاضَ النَّفْسِ وَنُفُورَ الْقَلْبِ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَيَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْقَلْبِ نَفْرَةٌ وَنَبْوَةٌ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ شَبِيهَةٌ بِالضِّيقِ الشَّدِيدِ ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِذَا كَانَ ضَيِّقًا
[ ص: 148 ] لَمْ يَقْدِرِ الدَّاخِلُ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا حَصَلَ فِيهِ هَذَا الِاعْتِقَادُ امْتَنَعَ دُخُولُ الْإِيمَانِ فِيهِ ، فَلِأَجْلِ حُصُولِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، أُطْلِقَ لَفْظُ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ عَلَيْهِ ، فَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى تَفْصِيلِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ بِاسْتِيلَاءِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ عَلَى قَلْبِ الْكَافِرِ ، وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ الْكَافِرَ عَنِ الْمُؤْمِنِ بِهَذَا الضِّيقِ وَالْحَرَجِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حُصُولَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ مِنَ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ أَزْيَدَ مِمَّا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ زِيَادَةً يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، بَلِ الْأَمْرُ فِي حُزْنِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ عَلَى السَّوِيَّةِ ، بَلِ الْحُزْنُ وَالْبَلَاءُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَكْثَرُ . قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=33وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ ) [ الزُّخْرُفِ : 33 ] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012654خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ بِالْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ " .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ أَيْضًا مَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَفْرَحُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْهِدَايَةِ وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِلْإِيمَانِ مَزِيدَ انْشِرَاحٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ ) [ الزُّخْرُفِ : 33 ] الْمُرَادُ مَنْ يُضِلُّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَضِيقُ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّ حُصُولَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ ، فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ إِخْرَاجٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْفَائِدَةِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ ، فَهُوَ يَقْتَضِي تَفْكِيكَ نَظْمِ الْآيَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَوَّلًا ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُصُولُ الْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ ، وَأَنْتُمْ عَكَسْتُمُ الْقَضِيَّةَ فَقُلْتُمُ : الْعَبْدُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ أَوَّلًا مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ يَهْدِيهِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخُصُّهُ بِمَزِيدِ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ لَهُ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَالدَّلَائِلُ اللَّفْظِيَّةُ إِنَّمَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَا إِذَا أَبْقَيْنَا مَا فِيهَا مِنَ التَّرْكِيبَاتِ وَالتَّرْتِيبَاتِ فَأَمَّا إِذَا أَبْطَلْنَاهَا وَأَزَلْنَاهَا لَمْ يُمْكِنِ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا ، وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ أَنْ لَا يُمْكِنَ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ ، وَإِنَّهُ طَعْنٌ فِي الْقُرْآنِ وَإِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْفَصْلُ فِي هَذِهِ السُّؤَالَاتِ ، ثُمَّ إِنَّا نَخْتِمُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ الْقَاهِرَةِ ، وَهِيَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَ الْإِيمَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ جَازِمَةٌ إِلَى فِعْلِ الْإِيمَانِ ، وَفَاعِلُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَانِبِ الْكُفْرِ ، وَلَفْظُ الْآيَةِ مُنْطَبِقٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ قَوَّى فِي قَلْبِهِ مَا يَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَدْعُوهُ إِلَى الْكُفْرِ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ السُّؤَالَاتِ سَاقِطٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .