الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3392 [ ص: 235 ] كتاب الإمارة

                                                                                                                              ومثله في النووي .باب الخلفاء من قريش

                                                                                                                              وقال النووي : ( باب: الناس تبع لقريش. والخلافة في قريش) .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص201 ج12 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عاصم بن محمد بن زيد، عن أبيه; قال: قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي من الناس اثنان" .

                                                                                                                              وفي رواية: "ما بقي منهم اثنان" ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              فيه: دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم.

                                                                                                                              قال النووي : وعلى هذا، انعقد الإجماع في زمن الصحابة، فكذلك بعدهم. ومن خالف فيه من أهل البدع، أو عرض بخلاف من غيرهم: فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين، فمن بعدهم. وبالأحاديث الصحيحة. قال عياض : اشتراط كونه قرشيا، هو مذهب العلماء كافة.

                                                                                                                              [ ص: 236 ] وقد احتج به أبو بكر وعمر على الأنصار يوم السقيفة، فلم ينكره أحد. قال: وقد عدها العلماء في مسائل الإجماع. ولم ينقل عن أحد من السلف فيها: قول ولا فعل، يخالف ما ذكرنا. وكذلك من بعدهم في جميع الأعصار. قال: ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع: أنه يجوز كونه من غير قريش. ولا بسخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من النبط وغيرهم، يقدم على القرشي، لهوان خلعه إن عرض منه أمر. وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه، مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين. والله أعلم. قاله النووي .

                                                                                                                              قلت: المراد بهذا الأمر في حديث الباب: أمر الخلافة. ومعنى الخلافة: "الإمامة"، في عرف الشرع. وقد أطال أهل علم الكلام على هذه المسألة أصولا وفروعا، في غير طائل. والأمر هين. وكون الإمام والخليفة من قريش، هو الحق الثابت الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة. والعلوي الفاطمي، هو خيرة الخيرة من قريش، وأعلاها شرفا وبيتا. ولكن لا ينفي ذلك صحتها في سائر بطون قريش، كما تدل عليه الأحاديث المصرحة بأن "الأئمة من قريش". وهي كثيرة جدا، وإن لم تكن في الصحيحين. بل عددها في كل مرتبة من الصحابة والتابعين [ ص: 237 ] وتابعيهم ومن بعدهم: زيادة على عدد التواتر. والمتواتر قطعي. وحديث الباب وما في معناه: يدل على أن المراد: "الإمامة الإسلامية". وأما أمر الجاهلية فقد انقرض. وليس المراد بالإمامة هنا: المعنى اللغوي، الشامل لكل من يأتم به الناس ويتبعونه على أي صفة كان. بل المراد: الإمامة الشرعية. ومن هذا: قول أبي بكر الصديق "رضي الله عنه" محتجا على الأنصار: إن العرب لا تعرف هذا الأمر لغير هذا الحي من قريش. قال ابن خلدون: أمثال هذه الأدلة كثيرة، إلا أنه لما ضعف أمر قريش وتلاشت عصبيتهم: عجزوا عن حمل الخلافة، وتغلبت عليهم الأعاجم، وصار الحل والعقد لهم. فاشتبه ذلك على كثير من المحققين، حتى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية. وعولوا على ظواهر في ذلك; مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : اسمعوا وأطيعوا. وإن أمر عليكم عبد حبشي، ما أقام فيكم كتاب الله . رواه الجماعة، عن أم الحصين الأخمسية، إلا البخاري وأبا داود. وهذا لا تقوم به حجة في ذلك. فإنه خرج مخرج التمثيل والفرض، للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة. قال: ومن القائلين بنفي اشتراط القرشية: القاضي أبو بكر الباقلاني . وبقي الجمهور على القول باشتراطها، وصحة الإمامة للقرشي ولو كان عاجزا عن القيام بأمور المسلمين. هذا حاصل كلام قاضي القضاة "مؤيد الدين ابن خلدون" في كتاب العبر. وقال الشوكاني رحمه الله [ ص: 238 ] في "وبل الغمام": لا ريب أن في بعض هذه الألفاظ، ما يدل على الحصر، ولكن قد خصص مفهوم الحصر: أحاديث وجوب الطاعة على العموم. وبذلك صرح القرآن الكريم. على أنه: قد ورد ما يدل على وجوب الطاعة لغير القرشي على الخصوص. كحديث: " اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة ". وهو في الصحيح. ورواه أحمد. وكذلك حديث: "عليكم بالطاعة، وإن كان عبدا حبشيا. فإن المؤمن كالجمل، إذا قيد انقاد". أخرجه أحمد، وابن ماجه، والحاكم، وغيرهم. ومن زعم: أن ثم فرقة بين السلطان والإمام، فعليه الدليل. ولا سيما بعد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة. ثم ملك بعد ذلك " أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه. ثم الإخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم: بأن الأئمة من قريش، هو كالإخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم: بأن الأذان في الحبشة، والقضاء في الأزد. وما هو الجواب عن هذا، فهو الجواب عن ذلك. قال: وتخصيص كون الأئمة من قريش ببعض بطونهم، لا يتم إلا بدليل. والأخذ بما وقع عليه الإجماع لا شك أنه أحوط. وأما أنه يتحتم المصير إليه، فليس بواضح. ولو صح ذلك، لزم بطلان أكثر ما دونوه من المسائل.. والمقام من المراكز. وما أحقه بأن لا يكون كذلك. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 239 ] وأقول: معنى هذا الكلام: أنه ينبغي لأهل الحل والعقد، إذا جعلوا أحدا خليفة عليهم: جعلوه من قريش. وإن تسلط عليهم أحد من غير قريش، وهو مسلم: تجب طاعته. ولا يجوز الخروج عن اتباعه. ولا البغي عليه. وتسلطه هذا، صحيح متحتم الاتباع. وليس المراد: جواز كونه من غير قريش، ونفي اشتراط القرشية. وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة. والله أعلم.

                                                                                                                              قال النووي : بين صلى الله عليه وآله وسلم: أن هذا الحكم مستمر، إلى آخر الدنيا، ما بقي من الناس اثنان. قال: وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم. فمن زمنه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الآن، الخلافة في قريش، من غير مزاحمة لهم. وتبقى كذلك ما بقي اثنان، كما قاله صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وقد انقرض هذا، بقتل المستعصم بالله "خليفة دار السلام بغداد" على أيدي كفار التتار. وكان من العباسية، الذين لا شك في كونهم من قريش. ثم تسامح أهل العلم وغيرهم في امتثال هذا الأمر، وصبروا على تسلط غير قريش، على بصيرة منهم، أو عجزا عن القيام بالحق. وصار الإسلام غريبا، وأهله غرباء. وكان أمر الله قدرا مقدورا حتى عاد الحال اليوم، إلى أن لم يبق في الدنيا إمام من قريش، في قطر من الأقطار، ومصر من الأمصار، إلا من علمه [ ص: 240 ] الله تعالى ولم نعلم به. ودخلت ممالك الإسلام قاطبة، تحت تصرف أيدي الكفار، إلا ما يرى ويسمع من أحوال بعض النواحي الضعيفة، التي لا قدرة لها على دفع عدوهم. ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولنا كتاب يسمى: "إكليل الكرامة، في تبيان مقاصد الإمامة" وفيه لمن يريد الاطلاع على هذه المسألة بأطرافها وجوانبها، وما لها وعليها: مقنع وبلاغ. فراجعه.

                                                                                                                              قال عياض : استدل أصحاب الشافعي بهذا الحديث، على فضيلة الشافعي . قال: ولا دلالة فيه لهم. لأن المراد: تقديم قريش في الخلافة فقط. قال النووي : قلت: هو حجة في مزية قريش على غيرهم. والشافعي قرشي. انتهى.




                                                                                                                              الخدمات العلمية