الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ تفاوت الاستعداد لا يستلزم التقليد في كل حكم ]

الوجه الثامن والستون : قولكم " إن الله سبحانه فاوت بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان ، فلا يليق بحكمته وعدله أن يفرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة ، إلى آخره " فنحن لا ننكر ذلك ، ولا ندعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله في كل مسألة من مسائل الدين دقه وجله وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومن تقدمهم من الصحابة والتابعين وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من نصب رجل واحد وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع ، بل تقديمها عليه وتقديم قوله على أقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع علماء أمته ، والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة ، وأن يضم إلى ذلك أنه لا يقول إلا بما في كتاب الله وسنة رسوله ، وهذا مع تضمنه للشهادة بما لا يعلم الشاهد ، والقول على الله بلا علم ، والإخبار عمن خالفه وإن كان أعلم منه أنه غير مصيب للكتاب والسنة ومتبوعي هو المصيب .

أو يقول : كلاهما مصيب للكتاب والسنة ، وقد تعارضت أقوالهما ، فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة متناقضة ، والله ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد ، ودينه تبع لآراء الرجال ، وليس له في نفس الأمر حكم معين ، فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو يخطئ من خالف متبوعه ، ولا بد له من واحد من الأمرين ، وهذا من بركة التقليد عليه .

إذا عرفت هذا فنحن إنما قلنا ونقول : إن الله تعالى أوجب على العباد أن يتقوه بحسب استطاعتهم ، وأصل التقوى معرفة ما يتقى ثم العمل به ; فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه ، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله ، وما [ ص: 188 ] خفي عليه فهو فيه أسوة أمثاله ممن عدا الرسول ; فكل أحد سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به ، ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل العلم ، ولم يكلفه الله ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه .

قال أبو عمر : وليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد خفي عليه بعض أمره ، فإذا أوجب الله سبحانه على كل أحد ما استطاعه وبلغته قواه من معرفة الحق وعذره فيما خفي عليه منه .

فأخطأ أو قلد فيه غيره كان ذلك هو مقتضى حكمته وعدله ورحمته ، بخلاف ما لو فرض على العباد تقليد من شاءوا من العلماء ، وأن يختار كل منهم رجلا ينصبه معيارا على وحيه ، ويعرض عن أخذ الأحكام واقتباسها من مشكاة الوحي ; فإن هذا ينافي حكمته ورحمته وإحسانه ، ويؤدي إلى ضياع وهجر كتابه وسنة رسوله كما وقع فيه من وقع ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية