الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 3 ] الصنف السادس في المطلق [1] والمقيد .

          أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الإثبات .

          فقولنا : ( نكرة ) احتراز عن أسماء المعارف وما مدلوله واحد معين أو عام مستغرق .

          وقولنا : ( في سياق الإثبات ) احتراز عن النكرة في سياق النفي ، فإنها تعم جميع ما هو من جنسها ، وتخرج بذلك عن التنكير لدلالة اللفظ على الاستغراق ، وذلك كقولك في معرض الأمر " أعتق رقبة " أو مصدر الأمر كقوله ( فتحرير رقبة ) أو الإخبار عن المستقبل كقوله : " سأعتق رقبة " ولا يتصور الإطلاق في معرض الخبر المتعلق بالماضي ، كقوله : " رأيت رجلا " ضرورة تعينه من إسناد الرؤية إليه .

          [2] وإن شئت قلت : هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه .

          [3] فقولنا : ( لفظ ) كالجنس للمطلق وغيره .

          وقولنا : ( دال ) احتراز عن الألفاظ المهملة .

          وقولنا : ( على مدلول ) ليعم الوجود والعدم .

          [ ص: 4 ] وقولنا : ( شائع في جنسه ) احتراز عن أسماء الأعلام ، وما مدلوله معين أو مستغرق .

          وأما المقيد فإنه يطلق باعتبارين .

          الأول : ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين ، كزيد وعمرو ، وهذا الرجل ونحوه .

          الثاني : ما كان من الألفاظ دالا على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك : " دينار مصري ، ودرهم مكي " .

          وهذا النوع من المقيد ، وإن كان مطلقا في جنسه من حيث هو دينار مصري ودرهم مكي ، غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم ، فهو مطلق من وجه ، ومقيد من وجه .

          وإذا عرف معنى المطلق والمقيد ، فكل ما ذكرناه في مخصصات العموم من المتفق عليه ، والمختلف فيه ، والمزيف ، والمختار ; فهو بعينه جار في تقييد المطلق ، فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا .

          ونزيد مسألة أخرى ، وهي أنه إذا ورد مطلق ومقيد ، فلا يخلو .

          إما أن يختلف حكمهما ، أو لا يختلف : فإن اختلف حكمهما . فلا خلاف في امتناع حمل أحدهما على الآخر ، وسواء كانا مأمورين أو منهيين ، أو أحدهما مأمورا والآخر منهيا ، وسواء اتحد سببهما أو اختلف ؛ لعدم المنافاة في الجمع بينهما إلا في صورة واحدة ، وهي ما إذا قال مثلا في كفارة الظهار " أعتقوا رقبة " ثم قال " لا تعتقوا رقبة كافرة " فإنه لا خلاف في مثل هذه الصورة أن المقيد يوجب تقييد الرقبة المطلقة بالرقبة المسلمة .

          وعليك باعتبار أمثلة هذه الأقسام ، فإنها سهلة .

          وأما إن لم يختلف حكمهما ، فلا يخلو إما أن يتحد سببهما ، أو لا يتحد : فإن اتحد سببهما ، فإما أن يكون اللفظ دالا على إثباتهما أو نفيهما ، فإن كان الأول كما لو قال في الظهار : " أعتقوا رقبة " ، ثم قال : " أعتقوا رقبة مسلمة " فلا نعرف خلافا في حمل المطلق على المقيد هاهنا ، وإنما كان كذلك ؛ لأن من عمل بالمقيد فقد وفى بالعمل بدلالة المطلق ، ومن عمل بالمطلق لم يف بالعمل بدلالة المقيد ، فكان الجمع هو الواجب والأولى .

          [ ص: 5 ] فإن قيل بطريق الشبهة إذا كان حكم المطلق إمكان الخروج عن عهدته ، بما شاء المكلف من ذلك الجنس فالعمل بالمقيد مما ينافي مقتضى المطلق ، وليس مخالفة المطلق ، وإجراء المقيد على ظاهره أولى من تأويل المقيد بحمله على الندب وإجراء المطلق على إطلاقه .

          قلنا : بل التقييد أولى من التأويل لثلاثة أوجه .

          الأول : أنه يلزم منه الخروج عن العهدة بيقين ، ولا كذلك في التأويل .

          الثاني : أن المطلق إذا حمل على المقيد ، فالعمل به فيه لا يخرج عن كونه موفيا للعمل باللفظ المطلق في حقيقته ، ولهذا لو أداه قبل ورود التقييد ، كان قد عمل باللفظ في حقيقته ، ولا كذلك في تأويل المقيد وصرفه عن جهة حقيقته إلى مجازه .

          الثالث : أن الخروج عن العهدة بفعل أي واحد كان من الآحاد الداخلة تحت اللفظ المطلق لم يكن اللفظ دلالة عليه بوضعه لغة ، بخلاف عما دل عليه المقيد من صفة التقييد .

          ولا يخفى أن المحذور في صرف اللفظ عما دل عليه اللفظ لغة أعظم من صرفه عما لم يدل عليه بلفظه لغة .

          وأما إن كان دالا على نفيهما أو نهي عنهما ، كما لو قال مثلا في كفارة الظهار : " لا تعتق مكاتبا كافرا " فهذا أيضا مما لا خلاف في العمل بمدلولهما ، والجمع بينهما في النفي ؛ إذ لا تعذر فيه .

          وأما إن كان سببهما مختلفا كقوله تعالى في كفارة الظهار ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة ) وقوله تعالى في القتل الخطأ ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) فهذا مما اختلف فيه .

          فنقل عن الشافعي - رضي الله عنه - تنزيل المطلق على المقيد في هذه الصورة ، لكن اختلف الأصحاب في تأويله .

          فمنهم من حمله على التقييد مطلقا من غير حاجة إلى دليل آخر .

          ومنهم من حمله على ما إذا وجد بينهما علة جامعة مقتضية للإلحاق ، وهو الأظهر من مذهبه .

          وأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم منعوا من ذلك مطلقا .

          [ ص: 6 ] ولنذكر حجة كل فريق ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .

          أما حجة من قال بالتقييد من غير دليل ، فهي أن كلام الله تعالى متحد في ذاته لا تعدد فيه فإذا نص على اشتراط الإيمان في كفارة القتل ، كان ذلك تنصيصا على اشتراطه في كفارة الظهار ، ولهذا حمل قوله تعالى ( والذاكرات ) على قوله في أول الآية ( والذاكرين الله كثيرا ) من غير دليل خارج .

          وهذا مما لا اتجاه له ، فإن كلام الله تعالى إما أن يراد به المعنى بالنفس ، أو العبارات الدالة عليه .

          والأول ، وإن كان واحدا لا تعدد فيه ، غير أن تعلقه بالمتعلقات مختلف باختلاف المتعلق ، ولا يلزم من تعلقه بأحد المختلفين بالإطلاق والتقييد ، أو العموم والخصوص ، أو غير ذلك ، أن يكون متعلقا بالآخر وإلا كان أمره ونهيه ببعض المختلفات أمرا ونهيا بباقي المختلفات ، وهو محال متناقض ، بل وكان يلزم من تعلقه بالصوم المقيد في الحج بالتفريق ، حيث قال تعالى ( فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ) وبالتتابع في الظهار حيث قال ( فصيام شهرين متتابعين ) أن يتقيد الصوم المطلق في اليمين ، إما بالتتابع أو التفريق ، وهو محال ، أو بأحدهما دون الآخر ولا أولوية .

          كيف وإنه يلزم من تقييده بأحدهما دون الآخر ، إبطال ما ذكروه من أن التنصيص على أحد المختلفين يكون تنصيصا على الآخر .

          وإن أريد به العبارة الدالة ، فهي متعددة غير متحدة ، ولا يلزم من دلالة بعضها على بعض الأشياء المختلفة ، دلالته على غيره ، وإلا لزم من ذلك المحال الذي قدمنا لزومه في الكلام النفساني .

          [4] وأما ما ذكروه من حمل الذاكرات على الذاكرين الله كثيرا ، فلا نسلم أن ذلك من غير دليل .

          ودليله أن قوله تعالى ( والذاكرات ) معطوف على قوله ( والذاكرين الله كثيرا [ ص: 7 ] ) ولا استقلال له بنفسه ، فوجب رده إلى ما هو معطوف عليه ومشارك له في حكمه .

          وأما حجة أصحاب أبي حنيفة ، فإنهم قالوا : إذا امتنع التقييد من غير دليل لما سبق . فلا بد من دليل ولا نص من كتاب أو سنة يدل على ذلك ، والقياس يلزم منه رفع ما اقتضاه المطلق من الخروج عن العهدة بأي شيء كان ، مما هو داخل تحت اللفظ المطلق ، كما سبق تقريره ، فيكون نسخا ، ونسخ النص لا يكون بالقياس .

          ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه يلزم من القياس نسخ النص المطلق ، بل تقييده ببعض مسمياته ، وذلك لا يزيد على تخصيص العام بالقياس عندكم ، فكذلك التقييد .

          كيف وإن لفظ ( الرقبة ) مطلق بالنسبة إلى السليمة والمعيبة ، وقد كان مقتضى ذلك أيضا الخروج عن العهدة بالمعيبة ، وقد شرطتم صفة السلامة ، ولم يدل عليه نص من كتاب أو سنة .

          وإن كان بالقياس ، فإما أن يكون نسخا ، أو لا يكون نسخا ، فإن كان الأول فقد بطل قولكم : إن النسخ لا يكون بالقياس ، وإن لم يكن نسخا ، فقد بطل قولكم : إن رفع حكم المطلق بالقياس يكون نسخا .

          وأما حجة من قال بالتقييد ، بناء على القياس فالوجه في ضعفه ما سبق في تخصيص العام بالقياس فعليك بنقله إلى هاهنا .

          والمختار أنه إن كان الوصف الجامع بين المطلق والمقيد مؤثرا أي بنص أو إجماع ، وجب القضاء بالتقييد ، بناء عليه ، وإن كان مستنبطا من الحكم المقيد فلا ، كما ذكرناه في تخصيص العموم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية