الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ضمان الرهن

قال الله (تعالى): فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ؛ فعطف بذكر الأمانة على الرهن؛ فذلك يدل على أن الرهن ليس بأمانة ؛ وإذا لم يكن أمانة كان مضمونا؛ إذ لو كان الرهن أمانة لما عطف عليه الأمانة; لأن الشيء لا يعطف على نفسه؛ وإنما يعطف على غيره.

واختلف الفقهاء في حكم الرهن ؛ فقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ ومحمد؛ وزفر؛ وابن أبي ليلى ؛ والحسن بن صالح : "الرهن مضمون بأقل من قيمته؛ ومن الدين"؛ وقال الثقفي؛ عن عثمان البتي : "ما كان من رهن؛ ذهبا؛ أو فضة؛ أو ثيابا؛ فهو مضمون؛ يترادان الفضل؛ وإن كان عقارا؛ أو حيوانا؛ فهلك؛ فهو من مال الراهن؛ والمرتهن على حقه؛ إلا أن يكون الراهن [ ص: 263 ] اشترط الضمان؛ فهو على شرطه"؛ وقال ابن وهب ؛ عن مالك : "إن علم هلاكه فهو من مال الراهن؛ ولا ينقص من حق المرتهن شيء؛ وإن لم يعلم هلاكه فهو من مال المرتهن؛ وهو ضامن لقيمته؛ يقال له: صفه؛ فإذا وصفه حلف على صفته؛ وتسمية ماله فيه؛ ثم يقومه أهل البصر بذلك؛ فإن كان فيه فضل عما سمى فيه أخذه الراهن؛ وإن كان أقل مما سمى الراهن حلف على ما سمى؛ وبطل عنه الفضل؛ وإن أبى الراهن أن يحلف أعطي المرتهن ما فضل؛ بعد قيمة الرهن"؛ وروى عنه ابن القاسم مثل ذلك؛ وقال فيه: "إذا شرط أن المرتهن مصدق في ضياعه؛ وأن لا ضمان عليه فيه؛ فشرطه باطل؛ وهو ضامن"؛ وقال الأوزاعي : "إذا مات العبد الرهن فدينه باق; لأن الرهن لا يغلق"؛ ومعنى قوله: " لا يغلق الرهن "؛ أنه لا يكون بما فيه إذا علم؛ ولكن يترادان الفضل؛ إذا لم يعلم هلاكه"؛ وقال الأوزاعي - في قوله: "له غنمه وعليه غرمه" -؛ قال: "فأما غنمه فإن كان فيه فضل رد إليه؛ وأما غرمه فإن كان فيه نقصان وفاه إياه"؛ وقال الليث : " الرهن بما فيه إذا هلك؛ ولم تقم بينة على ما فيه؛ إذا اختلفا في ثمنه؛ فإن قامت البينة على ما فيه ترادا الفضل"؛ وقال الشافعي : "هو أمانة؛ لا ضمان عليه فيه بحال إذا هلك؛ سواء كان هلاكه ظاهرا؛ أو خفيا".

قال أبو بكر : قد اتفق السلف من الصحابة؛ والتابعين؛ على ضمان الرهن ؛ لا نعلم بينهم خلافا فيه؛ إلا أنهم اختلفوا في كيفية ضمانه؛ واختلفت الرواية عن علي - رضي الله عنه - فيه؛ فروى إسرائيل؛ عن عبد الأعلى؛ عن محمد بن علي ؛ عن علي قال: "إذا كان أكثر مما رهن فهلك؛ فهو بما فيه; لأنه أمين في الفضل"؛ وإذا كان بأقل مما رهنه به فهلك؛ رد الراهن الفضل"؛ وروى عطاء ؛ عن عبيد بن عمير ؛ عن عمر مثله؛ وهو قول إبراهيم النخعي ؛ وروى الشعبي عن الحارث ؛ عن علي - في الرهن إذا هلك - قال: "يترادان الفضل"؛ وروى قتادة عن خلاس بن عمرو ؛ عن علي قال: "إذا كان فيه فضل فأصابته جائحة؛ فهو بما فيه؛ وإن لم تصبه جائحة؛ واتهم؛ فإنه يرد الفضل"؛ فروي عن علي هذه الروايات الثلاث؛ وفي جميعها ضمانه؛ إلا أنهم اختلفوا عنه في كيفية الضمان ؛ على ما وصفنا؛ وروي عن ابن عمر أنه قال: "يترادان الفضل"؛ وقال شريح ؛ والحسن ؛ وطاوس ؛ والشعبي ؛ وابن شبرمة : "إن الرهن بما فيه "؛ وقال شريح : "وإن كان خاتما من حديد بمائة درهم"؛ فلما اتفق السلف على ضمانه؛ وكان اختلافهم إنما هو في كيفية الضمان ؛ كان قول القائل: "إنه أمانة غير مضمون"؛ خارجا عن قول الجميع؛ وفي الخروج عن اختلافهم مخالفة لإجماعهم؛ وذلك أنهم لما اتفقوا على ضمانه فذلك اتفاق منهم على [ ص: 264 ] بطلان قول القائل بنفي ضمانه؛ ولا فارق بين اختلافهم في كيفية ضمانه؛ وبين اتفاقهم على وجه واحد فيه؛ بعد أن يكون قد حصل من اتفاقهم أنه مضمون؛ فهذا اتفاق قاض بفساد قول من جعله أمانة؛ وقد تقدم ذكر دلالة الآية على ضمانه.

ومما يدل عليه من جهة السنة حديث عبد الله بن المبارك ؛ عن مصعب بن ثابت قال: سمعت عطاء يحدث أن رجلا رهن فرسا؛ فنفق في يده؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمرتهن: "ذهب حقك"؛ وفي لفظ آخر: "لا شيء لك "؛ فقوله للمرتهن: "ذهب حقك"؛ إخبار بسقوط دينه; لأن حق المرتهن هو دينه؛ وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسن بن علي الغنوي؛ وعبد الوارث بن إبراهيم؛ قالا: حدثنا إسماعيل بن أبي أمية الزارع قال: حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة ؛ عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرهن بما فيه"؛ وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحسين بن إسحاق قال: حدثنا المسيب بن واضح قال: حدثنا ابن المبارك عن مصعب بن ثابت قال: حدثنا علقمة بن مرثد ؛ عن محارب بن دثار قال: " قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرهن بما فيه "؛ والمفهوم من ذلك ضمانه بما فيه من الدين؛ ألا ترى إلى قول شريح : " الرهن بما فيه ؛ ولو خاتما من حديد"؟ وكذلك قول محارب بن دثار ؛ إنما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خاتم رهن بدين فهلك؛ أنه بما فيه ؛ وظاهر ذلك يوجب أن يكون بما فيه؛ قل الدين أو كثر إلا أنه قد قامت الدلالة على أن مراده: إذا كان الدين مثل الرهن؛ أو أقل؛ وأنه إذا كان الدين أكثر رد الفضل؛ ويدل على أنه مضمون اتفاق الجميع على أن المرتهن أحق به بعد الموت من سائر الغرماء؛ حتى يباع فيستوفي دينه منه؛ فدل ذلك على أنه مقبوض للاستيفاء؛ فقد وجب أن يكون مضمونا ضمان الاستيفاء; لأن كل شيء مقبوض على وجه فإنما يكون هلاكه على الوجه الذي هو مقبوض به؛ كالمغصوب؛ متى هلك هلك على ضمان الغصب؛ وكذلك المقبوض على بيع فاسد؛ أو جائز؛ إنما يهلك على الوجه الذي حصل قبضه عليه؛ فلما كان الرهن مقبوضا للاستيفاء بالدلالة التي ذكرنا؛ وجب أن يكون هلاكه على ذلك الوجه؛ فيكون مستوفيا بهلاكه لدينه الذي يصح عليه الاستيفاء؛ فإذا كان الرهن أقل قيمة فغير جائز أن يجعل استيفاء العدة بما هو أقل منها؛ وإذا كان أكثر منه لم يجز أن يستوفي منه أكثر من مقدار دينه؛ فيكون أمينا في الفضل.

ويدل على ضمانه اتفاق الجميع على بطلان الرهن بالأعيان ؛ نحو الودائع؛ والمضاربة؛ والشركة؛ لا يصح الرهن بها; لأنه لو هلك لم يكن مستوفيا للعين؛ وصح بالديون المضمونة؛ وفي هذا دليل على أن الرهن مضمون [ ص: 265 ] بالدين؛ فيكون المرتهن مستوفيا له بهلاكه؛ ويدل عليه أنا لم نجد في الأصول حبسا لملك الغير لحق لا يتعلق به ضمان؛ ألا ترى أن المبيع مضمون على البائع حتى يسلمه إلى المشتري لما كان محبوسا بالثمن؟ وكذلك الشيء المستأجر؛ يكون محبوسا في يد مستأجره؛ مضمونا بالمنافع؛ استعمله؛ أو لم يستعمله؛ ويلزمه بحبسه ضمان الأجرة التي هي بدل المنافع؛ فثبت أن حبس ملك الغير لا يخلو من تعلق ضمان؛ واحتج الشافعي لكونه أمانة بحديث ابن أبي ذؤيب ؛ عن الزهري ؛ عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه؛ له غنمه؛ وعليه غرمه"؛ قال الشافعي : "ووصله ابن المسيب ؛ عن أبي هريرة ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم".

قال أبو بكر : إنما يوصله يحيى بن أبي أنيسة؛ وقوله: "له غنمه؛ وعليه غرمه"؛ من كلام سعيد بن المسيب ؛ كما روى مالك ؛ ويونس؛ وابن أبي ذؤيب ؛ عن ابن شهاب ؛ عن ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغلق الرهن"؛ قال يونس بن زيد؛ قال ابن شهاب : "وكان ابن المسيب يقول: "الرهن لمن رهنه؛ له غنمه؛ وعليه غرمه"؛ فأخبر ابن شهاب أن هذا قول ابن المسيب ؛ لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولو كان ابن المسيب قد روى ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: وكان ابن المسيب يقول ذلك؛ بل كان يعزيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فاحتج الشافعي بقوله: "له غنمه؛ وعليه غرمه"؛ بأنه قد أوجب لصاحب الرهن زيادته؛ وجعل عليه نقصانه؛ والدين بحاله.

قال أبو بكر : فأما قوله: "لا يغلق الرهن"؛ فإن إبراهيم النخعي ؛ وطاوسا ذكرا جميعا أنهم كانوا يرهنون؛ ويقولون: "إن جئتك بالمال إلى وقت كذا؛ وإلا فهو لك"؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغلق الرهن"؛ وتأوله على ذلك أيضا مالك ؛ وسفيان ؛ وقال أبو عبيد : لا يجوز في كلام العرب أن يقال للرهن إذا ضاع: "قد غلق الرهن"؛ إنما يقال: "غلق" إذا استحقه المرتهن فذهب به؛ وهذا كان من فعل أهل الجاهلية؛ فأبطله النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لا يغلق الرهن"؛ وقال بعض أهل اللغة: "إنهم يقولون: "غلق الرهن" إذا ذهب بغير شيء"؛ قال زهير :


وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا



يعني: ذهبت بقلبه بغير شيء؛ ومنه قول الأعشى:


فهل يمنعني ارتياد البلا ...     د من حذر الموت أن يأتين


علي رقيب له حافظ ...     فقل في امرئ غلق مرتهن



فقال في البيت الثاني: "فقل في امرئ غلق مرتهن"؛ يعني أنه يموت فيذهب بغير شيء؛ كأن لم [ ص: 266 ] يكن؛ فهذا يدل على أن قوله: "لا يغلق الرهن"؛ ينصرف على وجهين؛ أحدهما: إن كان قائما بعينه لم يستحقه المرتهن بالدين عند مضي الأجل؛ والثاني: عند الهلاك لا يذهب بغير شيء؛ وأما قوله: "له غنمه؛ وعليه غرمه"؛ فقد بينا أنه من قول سعيد بن المسيب ؛ أدرجه في الحديث بعض الرواة؛ وفصله بعضهم؛ وبين أنه من قوله؛ وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وأما ما تأوله الشافعي من أن له زيادته؛ وعليه نقصانه؛ فإنه تأويل خارج عن أقاويل الفقهاء؛ خطأ في اللغة؛ وذلك لأن الغرم في أصل اللغة هو اللزوم؛ قال الله (تعالى): إن عذابها كان غراما ؛ يعني: ثابتا؛ لازما؛ والغريم: الذي قد لزمه الدين؛ ويسمى به أيضا الذي له الدين; لأن له اللزوم والمطالبة؛ وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من المأثم؛ والمغرم؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: "إن الرجل إذا غرم حدث فكذب؛ ووعد فأخلف "؛ فجعل الغرم هو لزوم المطالبة له؛ من قبل الآدمي؛ وفي حديث قبيصة بن المخارق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن المسألة لا تحل إلا من ثلاث: فقر مدقع؛ أو غرم مفظع؛ أو دم موجع"؛ وقال (تعالى): إنما الصدقات للفقراء ؛ إلى قوله: والغارمين ؛ وهم المدينون؛ وقال (تعالى): إنا لمغرمون ؛ يعني: ملزمون؛ مطالبون بديوننا؛ فهذا أصل الغرم في أصل اللغة؛ وحدثنا أبو عمر ؛ غلام ثعلب؛ عن ثعلب؛ عن ابن الأعرابي ؛ في معنى الغرم: قال أبو عمر : "أخطأ من قال: إن هلاك المال؛ ونقصانه يسمى غرما; لأن الفقير الذي ذهب ماله لا يسمى غريما؛ وإنما الغريم من توجهت عليه المطالبة للآدمي بدين"؛ وإذا كان كذلك فتأويل من تأول "وعليه غرمه" أنه نقصانه خطأ؛ وسعيد بن المسيب هو راوي الحديث؛ وقد بينا أنه هو القائل: "له غنمه؛ وعليه غرمه"؛ ولم يتأوله على ما قاله الشافعي ; لأن من مذهبه ضمان الرهن .

وذكر عبد الرحمن بن أبي الزناد ؛ في كتاب "السبعة"؛ عن أبيه؛ عن سعيد بن المسيب ؛ وعروة ؛ والقاسم بن محمد ؛ وأبي بكر بن عبد الرحمن ؛ وخارجة بن زيد ؛ وعبيد الله بن عبد الله ؛ وغيرهم؛ أنهم قالوا: " الرهن بما فيه؛ إذا هلك وعميت قيمته "؛ ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد ثبت أن من مذهب سعيد بن المسيب ضمان الرهن ؛ فكيف يجوز أن يتأول متأول قوله: "وعليه غرمه"؛ على نفي الضمان؟! فإن كان ذلك رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالواجب على مذهب الشافعي أن يقضي بتأويل الراوي على مراد النبي - صلى الله عليه وسلم -; لأنه زعم أن الراوي للحديث أعلم بتأويله؛ فجعل قول عمرو بن دينار في الشاهد واليمين؛ أنه في الأموال حجة في ألا يقضى في غير الأموال؛ وقضى بقول ابن جريج في حديث القلتين أنه بقلال [ ص: 267 ] هجر؛ على مراد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وجعل مذهب ابن عمر ؛ في خيار المتبايعين ما لم يفترقا؛ أنه على التفرق بالأبدان؛ قاضيا على مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك؛ فلزمه على هذا أن يجعل قول سعيد بن المسيب قاضيا على مراد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إن كان قوله: "وعليه غرمه"؛ ثابتا عنه.

وإنما معنى قوله: "له غنمه" أن للراهن زيادته؛ وعليه غرمه؛ يعني دينه الذي به الرهن؛ وهو تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغلق الرهن"؛ لأنهم كانوا يوجبون استحقاق ملك الرهن للمرتهن بمضي الأجل قبل انقضاء الدين؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغلق الرهن"؛ أي: لا يستحقه المرتهن بمضي الأجل؛ ثم فسره فقال: "لصاحبه - يعني للراهن – غنمه"؛ يعني: زيادته؛ فبين أن المرتهن لا يستحق غير عين الرهن؛ لا نماءه وزيادته؛ وأن دينه باق عليه كما كان؛ وهو معنى قوله: "وعليه غرمه"؛ كقوله: "وعليه دينه"؛ فإذا ليس في الخبر دلالة على كون الرهن غير مضمون؛ بل هو دال على أنه مضمون؛ على ما بينا.

قال أبو بكر : وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغلق الرهن"؛ إذا أراد به حال بقائه عند الفكاك؛ وإبطال النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط استحقاق ملكه بمضي الأجل قد حوى معاني؛ منها أن الرهن لا تفسده الشروط الفاسدة؛ بل يبطل الشرط؛ ويجوز هو؛ لإبطال النبي - صلى الله عليه وسلم - شرطهم؛ وإجازته الرهن؛ ومنها أن الرهن لما كان شرط صحته القبض؛ كالهبة؛ والصدقة؛ ثم لم تفسده الشروط؛ وجب أن يكون كذلك حكم ما لا يصح إلا بالقبض من الهبات؛ والصدقات؛ في أن الشروط لا تفسدها; لاجتماعها في كون القبض شرطا لصحتها؛ وقد دل هذا الخبر أيضا على أن عقود التمليكات لا تعلق على الأخطار ; لأن شرطهم لملك الرهن بمضي المدة كان تمليكا معلقا على خطر؛ وعلى مجيء وقت مستقبل؛ فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط التمليك على هذا الوجه؛ فصار ذلك أصلا في سائر عقود التمليكات؛ والبراءة في امتناع تعلقها على الأخطار؛ ولذلك قال أصحابنا - فيمن قال: إذا جاء غدا فقد وهبت لك العبد؛ أو قال: قد بعتكه -: إنه باطل؛ لا يقع به الملك؛ وكذلك إذا قال: إذا جاء غدا فقد أبرأتك مما لي عليك من الدين؛ كان ذلك باطلا؛ وفارق ذلك عندهم العتاق؛ والطلاق؛ في جواز تعلقهما على الأخطار; لأن لهما أصلا آخر؛ وهو أن الله (تعالى) قد أجاز الكتابة؛ بقوله: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ؛ وهو أن يقول: "كاتبتك على ألف درهم؛ فإن أديت فأنت حر؛ وإن عجزت فأنت رقيق"؛ وذلك عتق معلق على خطر؛ وعلى مجيء حال مستقبلة؛ وقال في شأن الطلاق: فطلقوهن لعدتهن ؛ ولم يفرق بين إيقاعه في الحال؛ وبين إضافته إلى وقت السنة؛ ولما كان إيجاب هذا العقد - أعني العتق على مال؛ والخلع بمال [ ص: 268 ] مشروط للزوج - يمنع الرجوع فيما أوجبه قبل قبول العبد؛ والمرأة؛ صار ذلك عتقا معلقا على شرط؛ بمنزلة شروط الأيمان؛ التي لا سبيل إلى الرجوع فيها؛ وفي ذلك دليل على جواز تعلقهما على شروط؛ وأوقات مستقبلة؛ والمعنى في هذين أنهما لا يلحقهما الفسخ بعد وقوعهما؛ وسائر العقود التي ذكرناها؛ من عقود التمليكات؛ يلحقها الفسخ بعد وقوعها؛ فلذلك لم يصح تعلقها على الأخطار.

ونظير دلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغلق الرهن"؛ على ما ذكرنا؛ ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع المنابذة؛ والملامسة؛ وعن بيع الحصاة ؛ وهذه بياعات كان أهل الجاهلية يتعاملون بها؛ فكان أحدهم إذا لمس السلعة؛ أو ألقى الثوب إلى صاحبه؛ أو وضع عليه حصاة؛ وجب البيع؛ فكان وقوع الملك متعلقا بغير الإيجاب والقبول؛ بل بفعل آخر يفعله أحدهما؛ فأبطله النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فدل ذلك على أن عقود التمليكات لا تتعلق على الأخطار؛ وإنما جعل أصحابنا الرهن مضمونا بأقل من قيمته؛ ومن الدين؛ من قبل أنه لما كان مقبوضا للاستيفاء وجب اعتبار ما يصح الاستيفاء به؛ وغير جائز أن يستوفى من عدة أقل منها؛ ولا أكثر؛ فوجب أن يكون أمينا في الفضل؛ وضامنا لما نقص من الرهن عن الدين؛ ومن جعله بما فيه؛ قل أو كثر؛ شبهه بالمبيع إذا هلك في يد البائع؛ أنه يهلك بالثمن؛ قل أو كثر؛ والمعنى الجامع بينهما أن كل واحد محبوس بالدين؛ وليس هذا كذلك عندنا; لأن المبيع إنما كان مضمونا بالثمن؛ قل أو كثر; لأن البيع ينتقض بهلاكه؛ فسقط الثمن؛ إذ غير جائز بقاء الثمن مع انتقاض البيع؛ وأما الرهن فإنه يتم بهلاكه؛ ولا ينتقض؛ وإنما يكون مستوفيا للدين به؛ فوجب اعتبار ضمانه بما وصفنا.

فإن قيل: إذا جاز أن يكون الفضل عن الدين أمانة؛ فما أنكرت أن يكون جميعه أمانة؛ وألا يكون حبسه بالدين للاستيفاء موجبا لضمانه؛ لوجودنا هذا المعنى في الزيادة؛ مع عدم الضمان فيها؛ وكذلك ولد المرهونة؛ المولود بعد الرهن؛ يكون محبوسا في يد المرتهن مع الأم ؛ ولو هلك هلك بغير شيء فيه؛ ولم يكن كونه محبوسا في يد المرتهن علة لكونه مضمونا؛ قيل له: إن الزيادة على الدين؛ من مقدار قيمة الرهن؛ وولد المرهونة؛ كلاهما تابع للأصل؛ غير جائز إفرادهما دون الأصل؛ إذا أدخلا في العقد على وجه التبع؛ وإذا كان كذلك لم يجز إفرادهما بحكم الضمان؛ لامتناع إفرادهما بالعقد المتقدم قبل حدوث الولادة؛ وليس حكم ما يدخل في العقد على وجه التبع حكم ما يفرد به؛ ألا ترى أن ولد أم الولد يدخل في حكم الأم؛ ويثبت له حق الاستيلاد؛ على وجه التبع؛ ولا يصح انفراده في الأصل [ ص: 269 ] بهذا الحق؛ لا على وجه التبع؟ وكذلك ولد المكاتبة؛ يدخل في الكتابة؛ وهو حمل مع استحالة إفراده بالعقد في تلك الحال؛ فكذلك ما ذكرت من زيادة الرهن؛ وولد المرهونة؛ لما دخلا في العقد على وجه التبع لم يلزم على ذلك أن يجعل حكمهما حكم الأصل؛ ولا أن يلحقهما بمنزلة ما ابتدئ العقد عليهما؛ ويدل على ذلك أن رجلا لو أهدى بدنة فزادت في بدنها؛ أو ولدت ؛ أن عليه أن يهديها بزيادتها وولدها؛ ولو ذهبت الزيادة؛ وهلك الولد؛ لم يلزمه بالهلاك شيء غير ما كان عليه؛ وكذلك لو كان عليه بدنة وسط؛ فأهدى بدنة خيارا؛ مرتفعة؛ أن هذه الزيادة حكمها ثابت ما بقي الأصل؛ فإن هلك قبل أن ينحر بطل حكم الزيادة؛ وعاد إلى ما كان عليه في ذمته؛ وكذلك لو كان بدل الزيادة ولدا ولدته؛ كان في هذه المنزلة؛ فكذلك ولد المرهونة؛ وزيادتها على قيمة الرهن هذا حكمها في بقاء حكمها؛ ما داما قائمين؛ وسقوط حكمهما إذا هلكا؛ والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية