الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 415 ] فصل ( وعلى الرجل أن ينفق على أبويه وأجداده وجداته إذا كانوا فقراء وإن خالفوه في دينه ) أما الأبوان فلقوله تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } نزلت الآية في الأبوين الكافرين ، وليس من المعروف أن يعيش في نعم الله تعالى ويتركهما يموتان جوعا ، وأما الأجداد والجدات فلأنهم من الآباء والأمهات ولهذا يقوم الجد مقام [ ص: 416 ] الأب عند عدمه ولأنهم سببوا لإحيائه فاستوجبوا عليه الإحياء بمنزلة الأبوين . وشرط الفقر لأنه لو كان ذا مال ، فإيجاب نفقته في ماله أولى من إيجابها في مال غيره ، ولا يمنع ذلك باختلاف الدين لما تلونا ( ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين إلا للزوجة والأبوين والأجداد والجدات والولد وولد الولد ) أما الزوجة فلما ذكرنا أنها واجبة لها بالعقد لاحتباسها لحق له مقصود ، وهذا لا يتعلق باتحاد الملة ، وأما غيرها فلأن الجزئية ثابتة وجزء المرء في معنى نفسه ، فكما لا يمتنع نفقة نفسه لكفره لا يمتنع نفقة جزئه إلا أنهم إذا كانوا حربيين لا تجب نفقتهم على المسلم وإن كانوا مستأمنين ، لأنا نهينا عن البر في حق من يقاتلنا في الدين .

[ ص: 415 ]

التالي السابق


[ ص: 415 ] ( فصل ) ( قوله وعلى الرجل ) أي الموسر ( قوله وأجداده ) يدخل فيه الجد لأب والجد لأم وإن علوا ، وفي جداته جداته لأبيه وجداته لأمه وإن علون . وقوله : إذا كانوا فقراء يوافق بإطلاقه قول السرخسي حيث قال : إذا كان الأب قادرا على الكسب يجبر الابن على نفقته ، بخلاف قول الحلواني : إنه لا يجبر إذا كان الأب كسوبا لأنه كان غنيا باعتبار الكسب فلا ضرورة في إيجاب النفقة على الغير ، وإذا كان الابن قادرا على الكسب لا تجب نفقته على الأب ، فلو كان كل منهما كسوبا يجب أن يكتسب الابن وينفق على الأب فالمعتبر في إيجاب نفقة الوالدين مجرد الفقر . قيل : هو ظاهر الرواية لأن معنى الأذى في إيكاله إلى الكد والتعب أكثر منه في التأفيف المحرم بقوله تعالى { فلا تقل لهما أف } ولا خلاف في استحقاق الزوجة الغنية لأنه في مقابلة احتباسه إياها لاستيفاء حق مقصود له فكان كاستحقاق القاضي الغني .

( قوله نزلت في الأبوين الكافرين ) بدليل ما قبله وهو قوله تعالى { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي } ففرض سبحانه مصاحبتهما بالمعروف ، وليس من المعروف أن يتركهما مع الجوع والعرى ويتقلب هو في النعم إلى أن محملها على غير الحربيين ، فأما الآباء الحربيون وإن كانوا مستأمنين في دارنا لا يجبر الابن على النفقة عليهم لقوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } إلى قوله { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين } الآية بينها وبين آية الأبوين عموم وخصوص من وجه فيتصادقان في الأبوين الحربيين وتنفرد آية المصاحبة في غير الحربيين وآية النهي في غير الأبوين فتعارضا في الأبوين الحربيين فقدمت آية النهي لتقديم المحرم على المبيح .

ولقائل أن يقول : النهي إنما يتعلق بالذين تحقق منهم قتال في الدين وإخراج المسلمين من ديارهم وهم أهل مكة فلا يتناول الأبوين الحربيين اللذين لم يتحقق منهما قتال ولا مظاهرة على إخراج ، ولا يصح القياس على أهل مكة بمجرد جامع كونهم حربا لأن الحكم علق بمجموع من تحقق القتال والإخراج منه ، وأيضا صرح النص بعدم النهي عنه بقوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } ومعلوم أن الذين لم يقاتلوا أيضا حربيون ( قوله وأما الأجداد والجدات فلأنهم من الآباء والأمهات ) ظاهره أنهم يدخلون في اللفظ : [ ص: 416 ] أعني لفظ الأبوين الذي هو مرجع الضمير في قوله { وصاحبهما في الدنيا معروفا } وفيه نظر ، فإنهم في مسألة الأمان فيما إذا قالوا آمنونا على آبائنا صرحوا بعدم دخول الأجداد لعموم انتظام اللفظ ، فإن أراد إلحاقهم بالقياس فلا حاجة ، بل لا ينبغي أن يعلل بأنهم من الآباء بل يعلل استحقاق الأبوين النفقة بتسببهم في وجوده ويلحق بهم الأجداد ويعتبره في عموم المجاز ، ومن العجب عدم اعتبارهم إياه في عموم المجاز في الأمان ليدخل الأجداد مع أن الأمان يحتاط في إثباته . وقوله ولهذا يقوم الجد إلخ قيامه مقامه في الوراثة وولاية الإنكاح والتصرف في مال ولد الولد ، هذا ولو قال : إنهم من الوالدين والوالدات كان أقرب لأن مرجع ضمير صاحبهما الوالدان لا الأبوان .

( قوله أما الزوجة إلخ ) عرف من قوله واجبة بالعقد لاحتباسها أنه حيث أضاف إيجاب النفقة إلى العقد فهو إضافة إلى العلة البعيدة وأن المؤثر بالذات هو الاحتباس الخاص على ما قدمنا .

( قوله فكما لا يمتنع إلخ ) الأحسن أن يقال : فكما يجبر على إنفاقه على نفسه مع كفره وذمته يجبر على نفقة جزئه لأن عدم الامتناع لا يستلزم الوجوب وهو المطلوب بل أخص منه وهو الجبر عليه ، وكونه يجبره الحاكم على إنفاقه على نفسه محل نظر ، أما فتواه بوجوب ذلك فلا شك فيه ، وكذا أمره بالمعروف من ذلك .




الخدمات العلمية