الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر اختلاف الفقهاء في الانتفاع بالرهن

قال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ ومحمد؛ والحسن بن زياد ؛ وزفر: "لا يجوز للمرتهن الانتفاع بشيء من الرهن؛ ولا الراهن أيضا"؛ وقالوا: "إذا آجر المرتهن الرهن بإذن الراهن؛ أو آجره الراهن بإذن المرتهن؛ فقد خرج من الرهن؛ ولا يعود"؛ وقال ابن أبي ليلى : "إذا آجره المرتهن بإذن الراهن فهو رهن على حاله؛ والغلة للمرتهن قضاء من حقه"؛ وقال ابن القاسم ؛ عن مالك : "إذا خلى المرتهن بين الرهن؛ والراهن؛ يكريه؛ أو يسكنه؛ أو يعيره؛ لم يكن رهنا؛ وإذا آجره المرتهن بإذن الراهن لم يخرج من الرهن؛ وكذلك إذا أعاره المرتهن بإذن الراهن؛ فهو رهن على حاله؛ فإذا آجره المرتهن بإذن الراهن فالأجر لرب الأرض؛ ولا يكون الكري رهنا بحقه؛ إلا أن يشترط المرتهن"؛ فإن اشترط في البيع أن يرتهن؛ ويأخذ حقه من الكري؛ فإن مالكا كره ذلك؛ وإن لم يشترط ذلك في البيع؛ وتبرع به الراهن بعد البيع؛ فلا بأس به؛ وإن كان البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم؛ أو شرط فيه البائع بيعه الرهن ليأخذها من حقه؛ فإن ذلك جائز عند مالك ؛ في الدور؛ والأرض؛ وكرهه في الحيوان.

وذكر المعافى؛ عن الثوري أنه كره أن ينتفع من الرهن بشيء؛ ولا يقرأ في المصحف المرهون؛ وقال الأوزاعي : "غلة الرهن لصاحبه؛ ينفق عليه منها؛ والفضل له؛ فإن لم تكن له غلة؛ وكان يستخدمه؛ فطعامه بخدمته؛ فإن لم يكن يستخدمه فنفقته على صاحبه"؛ وقال الحسن بن صالح : "لا يستعمل الرهن؛ [ ص: 270 ] ولا ينتفع به؛ إلا أن يكون دارا يخاف خرابها؛ فيسكنها المرتهن؛ لا يريد الانتفاع بها؛ وإنما يريد إصلاحها"؛ وقال ابن أبي ليلى : "إذا لبس المرتهن الخاتم للتجمل ضمن؛ وإن لبسه ليحوزه فلا شيء عليه"؛ وقال الليث بن سعد : "لا بأس بأن يستعمل العبد الرهن بطعامه؛ إذا كانت النفقة بقدر العمل؛ فإن كان العمل أكثر أخذ فضل ذلك من المرتهن"؛ وقال المزني عن الشافعي ؛ فيما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرهن محلوب؛ ومركوب"؛ أي: من رهن ذات ظهر ودر؛ لم يمنع الرهن من ظهرها ودرها؛ وللراهن أن يستخدم العبد؛ ويركب الدابة؛ ويحلب الدر؛ ويجز الصوف؛ ويأوي بالليل إلى المرتهن؛ أو الموضوع على يده".

قال أبو بكر : لما قال الله (تعالى): فرهان مقبوضة ؛ فجعل القبض من صفات الرهن؛ أوجب ذلك أن يكون استحقاق القبض موجبا لإبطال الرهن؛ فإذا آجره أحدهما بإذن صاحبه خرج من الرهن; لأن المستأجر قد استحق القبض الذي به يصح الرهن؛ وليس ذلك كالعارية عندنا; لأن العارية لا توجب استحقاق القبض؛ إذ للمعير أن يرد العارية إلى يده متى شاء؛ واحتج من أجاز إجارته؛ والانتفاع به ؛ بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا هناد عن ابن المبارك ؛ عن زكريا؛ عن أبي هريرة ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لبن الدر يحلب بنفقته؛ إذا كان مرهونا؛ والظهر يركب بنفقته؛ إذا كان مرهونا؛ وعلى الذي يركب ويحلب النفقة"؛ فذكر في هذا الحديث أن وجوب النفقة لركوب ظهره؛ وشرب لبنه؛ ومعلوم أن الراهن إنما يلزمه نفقته لملكه؛ لا لركوبه ولبنه; لأنه لو لم يكن مما يركب أو يحلب؛ لزمته النفقة؛ فهذا يدل على أن المراد به أن اللبن والظهر للمرتهن بالنفقة التي ينفقها؛ وقد بين ذلك هشيم في حديثه؛ فإنه رواه عن زكريا بن أبي زائدة؛ عن الشعبي ؛ عن أبي هريرة ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانت الدابة مرهونة؛ فعلى المرتهن علفها؛ ولبن الدر يشرب؛ وعلى الذي يشرب نفقتها؛ ويركب"؛ فبين في هذا الخبر أن المرتهن هو الذي تلزمه النفقة؛ ويكون له ظهره ولبنه؛ وقال الشافعي : "إن نفقته على الراهن دون المرتهن"؛ فهذا الحديث حجة عليه؛ لا له؛ وقد روى الحسن بن صالح عن إسماعيل بن أبي خالد ؛ عن الشعبي قال: "لا ينتفع من الرهن بشيء"؛ فقد ترك الشعبي ذلك؛ وهو رواية عن أبي هريرة ؛ فهذا يدل على أحد معنيين؛ إما أن يكون الحديث غير ثابت في الأصل؛ وإما أن يكون ثابتا؛ وهو منسوخ عنده؛ وهو كذلك عندنا; لأن مثله كان جائزا قبل تحريم الربا؛ فلما حرم الربا؛ وردت الأشياء إلى مقاديرها؛ صار ذلك منسوخا؛ ألا ترى أنه جعل النفقة بدلا من اللبن؛ قل أو كثر؟ وهو نظير [ ص: 271 ] ما روي في المصراة أنه يردها؛ ويرد معها صاعا من تمر؛ ولم يعتبر مقدار اللبن الذي أخذه؛ وذلك أيضا عندنا منسوخ بتحريم الربا؛ ويدل على بطلان قول القائلين بإيجاب الركوب واللبن للراهن؛ أن الله (تعالى) جعل من صفات الرهن القبض؛ كما جعل من صفات الشهادة العدالة؛ بقوله: اثنان ذوا عدل منكم ؛ وقوله: ممن ترضون من الشهداء ؛ ومعلوم أن زوال هذه الصفة عن الشهادة يمنع جواز الشهادة؛ فكذلك لما جعل من صفات الرهن أن يكون مقبوضا؛ بقوله: فرهان مقبوضة ؛ وجب إبطال الرهن؛ لعدم هذه الصفة؛ وهو استحقاق القبض؛ فلو كان الراهن مستحقا للقبض الذي به يصح الرهن؛ لمنع ذلك من صحته بديا؛ لمقارنة ما يبطله؛ ولو صح بديا لوجب أن يبطل باستحقاق قبضه وجوب رده إلى يده؛ وأيضا لما اتفق الجميع على أن الراهن ممنوع من وطء الأمة المرهونة؛ والوطء من منافعها؛ وجب أن يكون ذلك حكم سائر المنافع في بطلان حق الراهن فيها؛ ومن جهة أخرى أن الراهن إنما لم يستحق الوطء لأن المرتهن يستحق ثبوت يده عليها؛ كذلك الاستخدام.

واختلف الفقهاء فيمن شرط ملك الرهن للمرتهن عند حلول الأجل ؛ فقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ ومحمد؛ وزفر؛ والحسن بن زياد : "إذا رهنه رهنا؛ وقال: إن جئتك بالمال إلى شهر؛ وإلا فهو بيع؛ فالرهن جائز؛ والشرط باطل"؛ وقال مالك : الرهن فاسد؛ وينقض؛ فإن لم ينقض حتى حل الأجل فإنه لا يكون للمرتهن بذلك الشرط؛ وللمرتهن أن يحبسه بحقه؛ وهو أحق به من سائر الغرماء؛ فإن تغير في يده لم يرد؛ ولزمته القيمة في ذلك يوم حل الأجل؛ وهذا في السلع؛ والحيوان؛ وأما في الدور والأرضين؛ فإنه يردها إلى الراهن؛ وإن تطاول؛ إلا أن تنهدم الدار؛ أو يبنى فيها؛ أو يغرس في الأرض؛ فهذا فوت؛ ويغرم القيمة؛ مثل البيع الفاسد.

وقال المعافى؛ عن الثوري - في الرجل يرهن صاحبه المتاع؛ ويقول: إن لم آتك فهو لك - قال: لا يغلق ذلك الرهن؛ وقال الحسن بن صالح : "ليس قوله هذا بشيء"؛ وقال الربيع ؛ عن الشافعي : "لو رهنه وشرط له إن لم يأته بالحق إلى كذا فالرهن له بيع؛ فالرهن فاسد؛ والرهن لصاحبه الذي رهنه".

قال أبو بكر : اتفقوا أنه لا يملكه بمضي الأجل؛ واختلفوا في جواز الرهن وفساده؛ وقد بينا فيما سلف أن قوله: "لا يغلق الرهن"؛ أنه لا يملك بالدين بمضي الأجل؛ للشرط الذي شرطاه؛ فإنما نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - غلقه بذلك؛ ولم ينف صحة الرهن الذي شرطاه؛ فدل ذلك على جواز الرهن؛ وبطلان الشرط؛ وهو أيضا قياس العمرى؛ التي أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها الشرط؛ وأجاز الهبة؛ والمعنى الجامع [ ص: 272 ] بينهما أن كل واحد منهما لا يصح بالعقد دون القبض.

واختلفوا أيضا في مقدار الدين إذا اختلف فيه الراهن والمرتهن ؛ فقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ ومحمد؛ وزفر؛ والحسن بن زياد : "إذا هلك واختلف الراهن والمرتهن في مقدار الدين؛ فالقول قول الراهن في الدين؛ مع يمينه"؛ وهو قول الحسن بن صالح ؛ والشافعي ؛ وإبراهيم النخعي ؛ وعثمان البتي ؛ وقال طاوس : "يصدق المرتهن إلى ثمن الرهن؛ ويستحلف"؛ وكذلك قول الحسن؛ وقتادة ؛ والحكم؛ وقال إياس بن معاوية قولا بين هذين القولين؛ قال: "إن كان للراهن بينة بدفعه الرهن فالقول قول الراهن؛ وإن لم تكن له بينة فالقول قول المرتهن; لأنه لو شاء جحده الرهن؛ ومتى أقر بشيء وليست عليه بينة؛ فالقول قوله"؛ وقال ابن وهب ؛ عن مالك : "إذا اختلفا في الدين؛ والرهن قائم؛ فإن كان الرهن قدر حق المرتهن؛ أخذه المرتهن؛ وكان أولى به؛ ويحلفه؛ إلا أن يشاء رب الرهن أن يعطيه حقه عليه؛ ويأخذ رهنه"؛ وقال ابن القاسم ؛ عن مالك : "القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن؛ لا يصدق على أكثر من ذلك".

قال أبو بكر : قال الله (تعالى): وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ؛ فيه الدلالة على أن القول قول الذي عليه الدين; لأنه وعظه في البخس؛ وهو النقصان؛ فيدل على أن القول قوله؛ وأيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البينة على المدعي؛ واليمين على المدعى عليه"؛ والمرتهن هو المدعي؛ والراهن هو المدعى عليه؛ فالقول قوله بقضية قوله - صلى الله عليه وسلم -؛ وأيضا لو لم يكن رهن لكان القول قول الذي عليه الدين في مقداره بالاتفاق؛ كذلك إذا كان به رهن; لأن الرهن لا يخرجه من أن يكون مدعى عليه.

قال أبو بكر : وزعم بعض من يحتج لمالك أن قوله أشبه بظاهر القرآن; لأنه قال: فرهان مقبوضة ؛ فأقام الرهن مقام الشهادة؛ ولم يأتمن الذي عليه الحق؛ حين أخذ منه وثيقة؛ كما لم يأتمنه على مبلغه إذا أشهد عليه الشهود; لأن الشهود والكتاب تنبئ عن مبلغ الحق؛ فلم يصدق الراهن؛ وقام الرهن مقام الشهود؛ إلى أن يبلغ قيمته؛ فإذا جاوز قيمته فلا وثيقة فيه؛ والمرتهن مدع فيه؛ والراهن مدعى عليه؛ قال أبو بكر : وهذا من عجيب الحجاج ؛ وذلك أنه زعم أنه لما لم يأتمنه حتى أخذ الرهن؛ قام الرهن مقام الشهادة؛ وزعم مع ذلك أن ذلك موافق لظاهر القرآن؛ وقد جعل الله (تعالى) القول قول الذي عليه الحق؛ حين قال: وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ؛ فجعل القول قوله في الحال التي أمر فيها بالإشهاد والكتاب؛ ولم يجعل عدم ائتمان الطالب [ ص: 273 ] للمطلوب مانعا من أن يكون القول قول المطلوب؛ فكيف يكون ترك ائتمانه إياه بالتوثق منه بالرهن مانعا من قبول قول المطلوب؛ وموجبا لتصديق الطالب على ما يدعيه؟ والذي ذكره مخالف لظاهر القرآن؛ والعلة التي نصبها لتصديق المرتهن في ترك ائتمانه منتقضة بنص الكتاب؛ ثم دعواه موافقته لظاهر القرآن أعجب الأشياء؛ وذلك لأن القرآن قد قضى ببطلان قوله حين جعل القول قول المطلوب؛ في الحال التي لم يؤتمن فيها؛ حتى استوثق منه بالكتاب والإشهاد؛ وهو إنما زعم أنه لم يأتمنه حين أخذ الرهن؛ وجب أن يكون القول قول الطالب؛ ثم زعم أن قوله موافق لظاهر القرآن؛ وبنى عليه أنه لم يأتمنه؛ وأن الرهن توثق؛ كما أن الشهادة توثق؛ فقام الرهن مقام الشهادة؛ وليس ما ذكره من المعنى من ظاهر القرآن في شيء؛ وإنا كنا قد دللنا على أنه مخالف له؛ وإنما هو قياس ورد لمسألة الرهن إلى مسألة الشهادة بعلة أنه لم يؤتمن في الحالين على الدين الذي عليه؛ وهو قياس باطل من وجوه؛ أحدها أن ظاهر القرآن يرده؛ وهو ما قدمناه؛ والثاني أنه منتقض باتفاق الجميع على أن من له على رجل دين فأخذ منه كفيلا؛ ثم اختلفوا في مقداره؛ كان القول قول المطلوب فيما يلزمه؛ ولم يكن عدم الائتمان بأخذه الكفيل موجبا لتصديق الطالب؛ مع وجود علته فيه؛ فانتقضت علته بالكفالة؛ والثالث أن المعنى الذي من أجله لم يصدق الطالب؛ إذا قامت البينة؛ أن شهادة الشهود مقبولة؛ محكوم بتصديقهم فيها؛ وهم قد شهدوا على إقراره بأكثر مما ذكره؛ وبما ادعاه المدعي؛ فصار كإقراره عند القاضي بالزيادة؛ ولا دلالة في قيمة الرهن على أن الدين بمقداره؛ لأنه لا خلاف أنه جائز أن يرهن بالقليل الكثير؛ وبالكثير القليل؛ ولا تنبئ قيمة الرهن عن مقدار الدين؛ ولا دلالة فيه عليه؛ فكيف يكون الرهن بمنزلة الشهادة؟ ويدل على فساد قياسه هذا أنهما لو اتفقا على أن الدين أقل من قيمة الرهن لم يوجب ذلك بطلان الرهن؛ ولو أقر الطالب أن دينه أقل مما شهد به شهوده بطلت شهادة شهوده؛ فهذه الوجوه كلها توجب بطلان ما ذكره هذا المحتج.

التالي السابق


الخدمات العلمية