الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 111 ] ( فصل ) : وإذا ثبت هذا : فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره : بقضائه وشرعه . وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق : مجوسية ومشركية وإبليسية

                فالمجوسية : الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه ; فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم

                والفرقة الثانية : المشركية الذين أقروا بالقضاء والقدر وأنكروا الأمر والنهي ; قال تعالى : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء وهذا قد كثر فيمن يدعي الحقيقة من المتصوفة

                والفرقة الثالثة : وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين لكن جعلوا هذا متناقضا من الرب - سبحانه وتعالى - وطعنوا في حكمته وعدله كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم ; كما نقله أهل المقالات ونقل عن أهل الكتاب

                [ ص: 112 ] والمقصود أن هذا مما تقوله أهل الضلال ; وأما أهل الهدى والفلاح : فيؤمنون بهذا وهذا ويؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وأحاط بكل شيء علما وكل شيء أحصاه في إمام مبين

                ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله وقدرته ومشيئته ووحدانيته وربوبيته وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه : ما هو من أصول الإيمان . ومع هذا فلا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب التي يخلق بها المسببات ; كما قال تعالى : { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } وقال تعالى : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } وقال تعالى : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } فأخبر أنه يفعل بالأسباب

                ومن قال : إنه يفعل عندها لا بها فقد خالف ما جاء به القرآن وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله وأضاف فعله إلى غيره

                وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه ولا بد من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه فليس في [ ص: 113 ] الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده قال تعالى : { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } أي فتعلمون أن خالق الأزواج واحد

                ولهذا من قال : إن الله لا يصدر عنه إلا واحد - لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد - كان جاهلا فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء - لا واحد ولا اثنان - إلا الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون

                فالنار التي خلق الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها وبمحل يقبل الاحتراق ; فإذا وقعت على السمندل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما وقد يطلى الجسم بما يمنع إحراقه

                والشمس التي يكون عنها الشعاع لا بد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف : لم يحصل الشعاع تحته وقد بسط هذا في غير هذا الموضع

                والمقصود هنا : أنه لا بد من " الإيمان بالقدر " فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد كما قال ابن عباس : هو نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله ، وكذب بالقدر نقض توحيده ولا بد من الإيمان بالشرع وهو الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه

                [ ص: 114 ] والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا فإنه لا بد له من حركة يجلب بها منفعته ، وحركة يدفع بها مضرته ; والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفعه والأفعال التي تضره وهو عدل الله في خلقه ، ونوره بين عباده ; فلا يمكن للآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه ويتركونه . وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم بل الإنسان المنفرد لا بد له من فعل وترك ; فإن الإنسان همام حارث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { أصدق الأسماء حارث وهمام } وهو معنى قولهم متحرك بالإرادات فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها ولا بد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار ؟ وهل يصلحه أو يفسده ؟

                وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم وبعضهم يعرفونه بالاستدلال كالذي يهتدون به بعقولهم وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم لهم

                وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يعرف حسنها وقبيحها بالعقل أم ليس لها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل ؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع وبينا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه . فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل وهو [ ص: 115 ] أن يكون الفاعل سببا لما يحبه الفاعل ويلتذ به وسببا لما يبغضه ويؤذيه وهذا القدر يعلم بالعقل تارة وبالشرع أخرى وبهما جميعا أخرى ; لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال : من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع

                فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك

                وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان وجاء به الكتاب هو ما دل عليه قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } وقوله تعالى { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب } وقوله تعالى { قل إنما أنذركم بالوحي }

                ولكن توهمت طائفة أن للحسن والقبح معنى غير هذا وأنه يعلم بالعقل وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح : يخرج عن هذا فكلا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن والقبح العقليين أو الشرعيين وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت

                [ ص: 116 ] ثم إن كلتا الطائفتين لما كانتا تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا والسخط والفرح ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية ودلت عليه الشواهد العقلية : تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح هل ذلك ممتنع لذاته وأنه لا يتصور قدرته على ما هو قبيح وأنه سبحانه منزه عن ذلك لا يفعله لمجرد القبح العقلي الذي أثبتوه ؟ على قولين

                والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال والطاعة والمعصية والأبرار والفجار وأهل الجنة وأهل النار والرحمة والعذاب ; فلا جعلوه محمودا على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم ولا ما فعله من الإحسان والنعمة وما تركه من التعذيب والنقمة

                والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه ولا حقيقة له وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح ، وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه

                فمن نظر إلى القدر فقط وعظم الفناء في توحيد الربوبية ووقف عند الحقيقة الكونية : لم يميز بين العلم والجهل والصدق والكذب والبر والفجور والعدل والظلم والطاعة والمعصية والهدى والضلال والرشاد والغي وأولياء الله وأعدائه وأهل الجنة وأهل النار

                وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله ودينه وشرائعه فهم [ ص: 117 ] مخالفون أيضا لضرورة الحس والذوق وضرورة العقل والقياس فإن أحدهم لا بد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء فيميز بين ما يأكل ويشرب وما لا يأكل ولا يشرب وبين ما يؤذيه من الحر والبرد وما ليس كذلك وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية