الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 8 ] الصنف السابع في المجمل .

          ويشتمل على مقدمة ومسائل ، أما المقدمة ففي معنى المجمل .

          وهو في اللغة مأخوذ من الجمع ، ومنه يقال " أجمل الحساب " إذا جمعه ورفع تفاصيله .

          وقيل : هو المحصل ، ومنه يقال : " جملت الشيء إذا حصلته " هكذا ذكره صاحب المجمل في اللغة .

          وأما في اصطلاح الأصوليين ، فقال بعض أصحابنا : هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء ، وهو فاسد ، فإنه ليس بمانع ولا جامع .

          أما أنه ليس بمانع ، فلأنه يدخل فيه اللفظ المهمل ، فإنه لا يفهم منه شيء عند إطلاقه ، وليس بمجمل ، لأن الإجمال والبيان من صفات الألفاظ الدالة ، والمهمل لا دلالة له ، ويدخل فيه قولنا مستحيل فإنه ليس بمجمل مع أنه لا يفهم منه شيء عند إطلاقه ، لأن مدلوله ليس بشيء بالاتفاق .

          وأما أنه ليس بجامع ، فلأن اللفظ المجمل المتردد بين محامل ، قد يفهم منه شيء وهو انحصار المراد منه في بعضها ، وإن لم يكن معينا .

          وكذلك ما هو مجمل من وجه ، ومبين من وجه ، كقوله تعالى : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، فإنه مجمل ، وإن كان يفهم منه شيء .

          فإن قيل : المراد منه أنه الذي لا يفهم منه شيء عند إطلاقه من جهة ما هو مجمل ، ففيه تعريف المجمل بالمجمل ، وتعريف الشيء بنفسه ممتنع .

          كيف وإن الإجمال كما أنه قد يكون في دلالة الألفاظ ، فقد يكون في دلالة الأفعال ، وذلك كما لو قام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الركعة الثانية ، ولم يجلس جلسة التشهد الوسط ، فإنه متردد بين السهو الذي لا دلالة له على جواز ترك الجلسة ، وبين التعمد الدال على جواز تركها .

          وإذا كان الإجمال قد يعم الأقوال والأفعال ، [ ص: 9 ] فتقييد حد المجمل باللفظ يخرجه عن كونه جامعا ، وبهذا يبطل ما ذكره الغزالي في حد المجمل من أنه اللفظ الصالح لأحد معنيين الذي لا يتعين معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال .

          وذكر أبو الحسين البصري فيه حدين آخرين .

          الأول : أنه ( الذي لا يمكن معرفة المراد منه ) ويبطل بالألفاظ المهملة ، وباللفظ الذي هو حقيقة في شيء ، فإنه إذا أريد به جهة مجازه ، فإنه لا يفهم المراد منه ، وليس بمجمل .

          الثاني : قال : ( المجمل هو ما أفاد شيئا من جملة أشياء هو متعين في نفسه ، واللفظ لا بعينه ) ، قال وهذا بخلاف قولك : " اضرب رجلا " فإن مدلوله واحد غير معين في نفسه ، وأي رجل ضربته جاز ، ولا كذلك لفظ القرء فإن مدلوله واحد في نفسه من الطهر أو الحيض ، وفيه إشعار بتقييد الحد باللفظ حيث قال : ( واللفظ لا بعينه ) فلا يكون جامعا بخروج الإجمال في دلالة الفعل عنه ، كما حققناه ، وإنما يصح التقييد باللفظ ، لو أريد تحديد المجمل اللفظي خاصة .

          والحق في ذلك أن يقال : ( المجمل هو ما له دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه ) .

          فقولنا : ( ما له دلالة ) ليعم الأقوال والأفعال وغير ذلك من الأدلة المجملة .

          وقولنا : ( على أحد أمرين ) احتراز عما لا دلالة له إلا على معنى واحد .

          وقولنا : ( لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه ) احتراز عن اللفظ الذي هو ظاهر في معنى وبعيد في غيره ، كاللفظ الذي هو حقيقة في شيء ومجاز في شيء على ما عرف فيما تقدم .

          وقد يكون ذلك في لفظ مفرد مشترك عند القائلين بامتناع تعميمه ، وذلك إما بين مختلفين ، كالعين ، للذهب والشمس ، والمختار للفاعل والمفعول ، أو ضدين كالقرء ، للطهر والحيض . [1] [ ص: 10 ] وقد يكون في لفظ مركب ، كقوله تعالى : ( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) فإن هذه مترددة بين الزوج والولي .

          وقد يكون ذلك بسبب التردد في عود الضمير إلى ما تقدمه كقولك : " كل ما علمه الفقيه فهو كما علمه " فإن الضمير في ( هو ) متردد بين العود إلى الفقيه وإلى معلوم الفقيه ، والمعنى يكون مختلفا ، حتى أنه إذا قيل : بعوده إلى الفقيه ، كان معناه في الفقيه لمعلومه ، وإن عاد إلى معلومه كان معناه . فمعلومه على الوجه الذي علم .

          وقد يكون ذلك بسبب تردد اللفظ بين جمع الأجزاء وجمع الصفات ، كقولك : " الخمسة زوج وفرد " والمعنى مختلف ، حتى أنه إن أريد به جمع الأجزاء ، كان صادقا ، وإن أريد به جمع الصفات ، كان كاذبا .

          وقد يكون ذلك بسبب الوقف والابتداء ، كما في قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) فالواو في قوله ( والراسخون ) متردد بين العطف والابتداء ، والمعنى يكون مختلفا .



          [2] وقد يكون ذلك بسبب تردد الصفة [3] وذلك كما لو كان زيد طبيبا غير ماهر [ ص: 11 ] في الطب وهو ماهر في غيره ، فقلت : " زيد طبيب ماهر " فإن قولك : ( ماهر ) متردد بين أن يراد به كونه ماهرا في الطب فيكون كاذبا ، وبين أن يراد به غيره فيكون صادقا .

          وقد يكون ذلك بسبب تردد اللفظ بين مجازاته المتعددة عند تعذر حمله على حقيقته ، وقد يكون بسبب تخصيص العموم بصور مجهولة ، كما لو قال : " اقتلوا المشركين " ثم قال بعد ذلك : " بعضهم غير مراد لي من لفظي " [4] فإن قوله : ( فاقتلوا المشركين ) بعد ذلك يكون مجملا غير معلوم ، أو بصفة مجهولة كقوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين ) فإن تقييد الحل بالإحصان مع الجهل بما هو الإحصان ، موجب للإجمال فيما أحل [5] أو باستثناء مجهول كقوله : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) [6] فإنه مهما كان المستثنى مجملا ، فالمستثنى منه كذلك ، وكذلك الكلام في تقييد المطلق .

          وقد يكون ذلك بسبب إخراج اللفظ في عرف الشرع عما وضع له في اللغة عند القائلين بذلك ، قبل بيانه لنا ، كقوله : ( فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) و ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) فإنه يكون مجملا لعدم إشعار اللفظ بما هو المراد منه بعينه من الأفعال المخصوصة ؛ لأنه [7] مجمل بالنسبة إلى الوجوب .

          [ ص: 12 ] هذا كله في الأقوال وقد يكون ذلك في الأفعال ، كما ذكرناه أولا .

          وتمام كشف الغطاء عن ذلك بمسائل وهي ثمان .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية