الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يجوز اقتناؤه إلا لصاحب صيد أو حرث أو ماشية أو ما كان في معناهم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . لا يجوز اقتناء الكلب إلا أن يكون منتفعا به فيجوز اقتناؤه . وقال أبو حنيفة : يجوز اقتناؤه بكل حال ، وإن لم يكن منتفعا به : استدلالا بأن كل حيوان جاز اقتناؤه إذا كان منتفعا به جاز اقتناء جميع جنسه ، وإن كان غير منتفع به كالبغال والحمير طردا والخنازير عكسا .

                                                                                                                                            ودليلنا : رواية الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو ضاريا نقص من عمله كل يوم قيراطان " .

                                                                                                                                            وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراطان "

                                                                                                                                            وروي عن ابن عمر أنه قال حين ذكر أبو هريرة الزرع في حديثه : إن لأبي هريرة زرعا .

                                                                                                                                            فجعل عيسى بن أبان هذا القول من ابن عمر قد حافى أبي هريرة وطعنا عليه .

                                                                                                                                            وذكر أن عائشة كانت تقول ألا تسمعون إلى هذا الرجل - تعني أبا هريرة - يروي عامة نهاره ولقد كان السامع يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما لو أراد أن يعده لعده وأحصاه .

                                                                                                                                            وحكي عن إبراهيم النخعي أنه قال : لقد كان يؤخذ بروايات أبي هريرة ويترك ، فأوهى بهذه الحكايات أحاديث أبي هريرة ، ومنع من الاحتجاج عليه بها ، ورام لنصرة أبي حنيفة أن لا يكون اقتناء الكلب مخصوصا .

                                                                                                                                            وهذا فعل من عاند صحابة نبيه حتى سبهم ظنا وجعل لديهم غدرا ، ولو سلم من زلل الهوى ، وميل العباد ، وسمع فيهم قول الله تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران 110 ] لوضح له ما لا يجد عذرا معه ، ولعلم أن أبا هريرة من المكثرين سماعا وحفظا ، والمقبولين رواية ونقلا ، لقلة شغله وكثرة ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال : لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق بالأسواق ولا غرس ودي ، وكنت امرأ فقيرا ألزم النبي صلى الله عليه وسلم فأحفظ عنه ما لا يحفظونه . ولكثرة ملازمته ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة زر غبا تزدد حبا " . وروي أن [ ص: 378 ] النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من بسط ثوباه فأحدثه بأحاديث لا ينساها " فبسطت ثوبي فحدثني بأحاديث فهمت أطرافها فما نسيت بعد ذلك كلما سمعت منه .

                                                                                                                                            وقد روي أن عثمان رضي الله عنه أثنى على أبي هريرة وقال : حفظ الله عليك كما حفظت علينا سنن نبينا صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            وأما قول ابن عمر : إن لأبي هريرة زرعا ، فليس ذلك منه قدحا ، وإنما له أحد جوابين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن له زرعا فحفظ ذكر الزرع ، وليس لابن عمر زرع .

                                                                                                                                            والثاني : أن له زرعا ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم في الإذن في كلب الزرع . وأما إنكار عائشة عليه الكثرة فمعناه : أنها أنكرت كثرة روايته لا أنها نسبته إلى التخوض والكذب . كما روي عن عمر أنه قال لأبي هريرة : أقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يتقدم إلى أصحابه فيقول لهم : أقلوا وأنا شريككم .

                                                                                                                                            وأما قول إبراهيم لقد كان يؤخذ بروايات أبي هريرة . فنقول : ليس له محصول : لأن أبا هريرة إن كان موثوقا به وجب قبول جميع رواياته ، وإن كان غير موثوق به لم يجز قبول شيء من رواياته ، فأما قبول بعضها وترك بعضها فلا وجه له .

                                                                                                                                            ثم ليس هذا بمانع من ظهور الحجة عليهم في مسألتنا : لأن حديث أبي هريرة لو عدلنا عن الاحتجاج به لكان حديث ابن عمر كافيا في تحريم اقتناء الكلب إلا أن يكون منتفعا به .

                                                                                                                                            فأما قوله عليه السلام : " نقص من أجره كل يوم قيراطان " فيهما عبارة عن جزأين من عمله .

                                                                                                                                            واختلفوا : هل المراد به من عمله الماضي أو المستقبل ؟ فقال بعضهم : من ماضي عمله ، وقال آخرون : من مستقبل عمله . ثم اختلفوا بعد ذلك في أي عمل يذهب على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن جزءا من عمل الليل ، وجزءا من عمل النهار .

                                                                                                                                            والثاني : أن جزءا من عمل الفرض ، وجزءا من عمل النفل .

                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر هذا فالكلاب ضربان : منتفع به ، وغير منتفع به ، فما كان غير منتفع به حرم اقتناؤه لما ذكرنا ولقوله عليه السلام : " إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة " .

                                                                                                                                            [ ص: 379 ] ثم إن كان ما لا ينتفع به عقورا مؤذيا قتل ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الكلاب أمة فاقتلوا منها كل أسود بهيم " .

                                                                                                                                            وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة أمر بقتل الكلاب . قال : فكان رجل يكنى أبا محمد يطوف عليها وبيده الحربة فيقتلها .

                                                                                                                                            فأما ما كان غير عقور ولا مؤذ فلا يجوز قتله : لقوله صلى الله عليه وسلم : " في كل كبد حرى أجر " .

                                                                                                                                            وأما المنتفع به فقد جاءت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بالانتفاع به في ثلاثة أشياء : في الصيد والحرث والماشية . فأما كلب الصيد : فهو ما كان معلما يصاد به ، فاقتناؤه لمن يصيد به مباح : لأن من الصيد ما لا يصيده جارح غير الكلب ، كالثعالب والأرانب فكانت الحاجة داعية إلى اقتنائه .

                                                                                                                                            فأما كلب الحرث : فهو كلب أصحاب الزروع : لأنه يحفظ زروعهم من الوحش لا سيما في الليل ، مع قلة نوم الكلب وسرعة تيقظه .

                                                                                                                                            ولا يقوم غيره مقامه ، فدعت حاجة أصحاب الزروع إلى اقتنائه ، وفي معنى أصحاب الزروع أصحاب النخل والشجر والكرم .

                                                                                                                                            وأما كلب الماشية : فهو الكلب الذي يطوف على الماشية إذا رعت فيحفظها من صغار السباع ، فدعت حاجة الرعاة إليه فجاز لهم اقتناؤه ، وفي معنى أصحاب المواشي أصحاب الخيل والبغال والحمير .

                                                                                                                                            فأما البوادي وسكان الخيام في الفلوات فيجوز لهم اقتناء الكلاب حول بيوتهم لتحرسهم من الطراق والوحش ، فإن للكلاب عواء عند رؤية من لم يألفوه ينتبه به أربابها على الاستيقاظ وحراسة البيوت . وقد جاء في بعض الروايات إلا كلب ماشية أو ضاريا أو أهل بيت مفرد ، يعني البيوت المفرقة في الصحاري .

                                                                                                                                            وفي معنى أصحاب الخيام من البوادي أهل الحصون والبيوت المفردة في أطراف الرساتيق ، وهكذا أهل القوافل والرفاق .

                                                                                                                                            وروي أن أنس بن مالك حج ومعه كلب ، فقيل له : تحج ومعك كلب . فقال : يحفظ علينا ثيابنا .

                                                                                                                                            فأما اتخاذ الكلاب لحراسة الدور والمنازل في المدن والقرى ففيه لأصحابنا وجهان :

                                                                                                                                            [ ص: 380 ] أحدهما : وهو قول أبي إسحاق ، جواز اتخاذه لحراسة البيوت لما فيه من التيقظ والعواء على من أنكر ، فصار في معنى ما ورد الاستثناء فيه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه لا يجوز اتخاذه لحراسة الدور والبيوت في المدن : لأنه قد يستغنى بالدروب والحراس فيها عن الكلاب : ولأن الكلاب لا تغني في المنازل ما تغني في الزرع والمواشي ، لأن حفظ المنازل من الناس ، والكلب ربما احتال الإنسان عليه بلقمة يطعمه حتى يألفه فلا ينكره إذا ورد للسرقة والتلصص ، والزروع والمواشي تحفظ من الوحش والسباع فلا يتم فيها حيلة في ألف الكلب لها فافترق المعنى فيهما .

                                                                                                                                            وأما اقتناء جرو الكلاب وصغارها لتعلم الصيد أو حفظ الزروع والمواشي ففي جوازه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز : لأنها في هذه الحالة غير منتفع بها .

                                                                                                                                            والثاني : يجوز اقتناؤها للتعليم : لأن تعليمها منفعة ، ولأنه لا يمكن الاصطياد بها إلا بعد التعليم ، فلو منع من تعليمها لمنع من الصيد بها .

                                                                                                                                            وأما ما انتفع به من كلاب الصيد والحرث والماشية إذا اقتناها من لا ينتفع بها ممن ليس له صيد ولا حرث ولا ماشية ففي جوازه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز اعتبارا لها لما فيها من المنفعة .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجوز اعتبارا بأربابها ، ولأنه ليس لهم فيها منفعة .

                                                                                                                                            وهكذا لو اتخذ صاحب الحرث كلب ماشية ، أو اتخذ صاحب الماشية كلب حرث كان على هذين الوجهين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية