الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب قتل الجاسوس إذا كان مستأمنا أو ذميا 3429 - ( عن سلمة بن الأكوع قال { : أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين وهو في سفر ، فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ، ثم انسل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اطلبوه فاقتلوه فسبقتهم إليه فقتلته ، فنفلني سلبه } . رواه أحمد والبخاري وأبو داود ) .

                                                                                                                                            3430 - ( وعن فرات بن حيان : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله ، وكان ذميا ، وكان عينا لأبي سفيان وحليفا لرجل من الأنصار ، فمر بحلقة من الأنصار فقال : إني مسلم ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله إنه يقول إنه مسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم ، منهم فرات بن حيان } رواه أحمد وأبو داود ، وترجمه بحكم الجاسوس الذمي ) .

                                                                                                                                            3431 - ( وعن علي رضي الله عنه قال : { بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير [ ص: 11 ] والمقداد بن الأسود قال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها ، فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا ، حتى انتهينا إلى الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي من كتاب ، فقلنا : لتخرجن الكتاب ، أو لتلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب ما هذا ؟ قال : يا رسول الله لا تعجل علي ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد صدقكم ، فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث فرات بن حيان في إسناده أبو همام الدلال محمد بن مجيب ولا يحتج بحديثه ، وهو يرويه عن سفيان الثوري ، ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري البصري ، وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه . ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الأزرق العبداني وكان ثقة قوله : ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين ) في رواية لمسلم أن ذلك كان في غزوة هوازن ، وسمي الجاسوس عينا لأن عمله بعينه أو لشدة اهتمامه بالرؤية واستغراقه فيها كأن جميع بدنه صار عينا .

                                                                                                                                            قوله : ( فنفلني ) في رواية البخاري فنفله بالالتفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة . وسبب قتله أنه اطلع على عورة المسلمين كما وقع عند مسلم من رواية عكرمة بلفظ : " فقيد الجمل ثم تقدم يتغدى مع القوم وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة في المظهر إذ خرج يشتد " وفي رواية لأبي نعيم في المستخرج من طريق يحيى الحماني عن أبي العميس " أدركوه فإنه عين " وفي الحديث دليل على أنه يجوز قتل الجاسوس . قال النووي : فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر وهو باتفاق وأما المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي : ينتقض عهده بذلك . وعند الشافعية خلاف . أما لو شرط عليه ذلك في عهده فينتقض اتفاقا .

                                                                                                                                            وحديث فرات المذكور في الباب يدل على جواز قتل الجاسوس الذمي . وذهبت الهادوية إلى أنه يقتل جاسوس الكفار والبغاة إذا كان قد قتل أو حصل القتل بسببه وكانت الحرب قائمة ، وإذا اختل شيء من ذلك حبس فقط قوله : ( وعن فرات ) بضم الفاء وراء مهملة وبعد الألف تاء مثناة فوقية : وهو عجلي [ ص: 12 ] سكن الكوفة وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يزل يغزو معه إلى أن قبض فنزل الكوفة قوله : ( روضة خاخ ) بخاءين معجمتين منقوطتين من فوق قوله : ( ظعينة ) بالظاء المعجمة بعدها عين مهملة : وهي المرأة قوله : ( من عقاصها ) جمع عقيصة : وهي الضفيرة من شعر الرأس ، وتجمع أيضا على عقص قوله : ( من حاطب ) بحاء مهملة ، وبلتعة بفتح الموحدة وسكون اللام وفتح التاء المثناة من فوق بعدها عين مهملة .

                                                                                                                                            قوله : ( إنه قد شهد بدرا ) ظاهر هذا أن العلة في ترك قتله كونه ممن شهد بدرا ، ولولا ذلك لكان مستحقا للقتل ففيه متمسك لمن قال : إنه يقتل الجاسوس ولو كان من المسلمين . وقد روى ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة قال : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم ، ثم أعطاه امرأة من مزينة ، وذكر ابن إسحاق أن اسمها سارة ، وذكر الواقدي أن اسمها كنود ، وفي رواية له أخرى سارة ، وفي أخرى له أيضا أم سارة . وذكر الواقدي أن حاطبا جعل لها عشرة دنانير على ذلك ، وقيل دينارا واحدا .

                                                                                                                                            وقيل إنها كانت مولاة العباس . قال السهيلي : كان حاطب حليفا لعبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى ، واسم أبي بلتعة عمرو ، وقيل كان أيضا حليفا لقريش . وذكر يحيى بن سلام في تفسيره أن لفظ الكتاب " أما بعد ، يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده ، فانظروا لأنفسكم والسلام " كذا حكاه السهيلي . وروى الواقدي بسند له مرسل أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو ، ولا أراه يريد غيركم ، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد " قوله : ( وما يدريك لعل الله . . . إلخ ) هذه بشارة عظيمة لأهل بدر رضوان الله عليهملم تقع لغيرهم ، والترجي المذكور قد صرح العلماء بأنه في كلام الله وكلام رسوله للوقوع . وقد وقع عند أحمد وأبي داود وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة بالجزم ، ولفظه { إن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم } وعند أحمد بإسناد على شرط مسلم من حديث جابر مرفوعا { لن يدخل النار أحد شهد بدرا } وقد استشكل قوله : " اعملوا ما شئتم " فإن ظاهره أنه للإباحة وهو خلاف عقد الشرع .

                                                                                                                                            وأجيب بأنه إخبار عن الماضي : أي كل عمل كان لكم فهو مغفور ، ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي ولقال : فسأغفره لكم . وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب ; لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر منكرا عليه ما قال في أمر حاطب ، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين ، فدل على أن المراد ما سيأتي ، وأورده بلفظ الماضي مبالغة في تحققه .

                                                                                                                                            وقيل إن صيغة الأمر في قوله : " اعملوا " للتشريف [ ص: 13 ] والتكريم ، فالمراد عدم المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السالفة ، وتأهلوا لأن يغفر الله لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت : أي كل ما عملتموه بعد هذه الواقعة من أي عمل كان فهو مغفور . وقيل إن المراد أن ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة ، وقيل هي بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم ، وفيه نظر ظاهر لما وقع في البخاري وغيره في قصة قدامة بن مظعون من شربه الخمر في أيام عمر وأن عمر حده ، ويؤيد القول بأن المراد بالحديث أن ذنوبهم إذا وقعت تكون مغفورة ما ذكره البخاري في باب استتابة المرتدين عن أبي عبد الرحمن السلمي التابعي الكبير أنه قال لحبان بن عطية : قد علمت الذي جرأ صاحبك على الدماء ، يعني عليا كرم الله وجهه . قال في الفتح : واتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها ا هـ .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية