الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل الثاني : في كيفية أدائها .

                                                                                                                وفيه فروع عشرة :

                                                                                                                الأول : الغسل وهو مندوب إليه ، وحكى اللخمي : الوجوب لما في الصحيحين ، قال - عليه السلام - : " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل ، وفي أبي داود : من توضأ فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل فائدة : الهاء في بها عائدة على فعلة الوضوء متعلقة بفعل محذوف تقديره فبها خذوا ، وفي الكتاب : لا ينتقض الغسل بناقض الوضوء ; لأنه مشروع للنظافة لا لرفع الحدث ، فناقضة الأوساخ دون الحدث ، كما قلنا في وضوء الجنب عند النوم ، لا ينقضه الحدث الأصغر ; لأنه لم يشرع له ، قال سند : والظاهر افتقاره إلى النية ; خلافا لأشهب محتجا بأنه مشروع للنظافة فلا تشترط النية : كإزالة النجاسة .

                                                                                                                وجوابه : أن ذلك وإن كان مطلوبا إلا أن فيه شائبة التعبد ، بدليل توجهه على التنظيف ، قال أبو الطاهر : المشهور عدم إجزائه بماء المضاف كماء الرياحين ، وقيل : يجزي ، وفي الكتاب : يكون متصلا بالرواح ، وقال ابن وهب [ ص: 349 ] في العتبية ، و ( ح ) و ( ش ) : إن اغتسل بعد الفجر أجزأه . لنا الحديث السابق ، والشرط لا يتأخر عن المشروط ، وقد جعل الرواح فيه شرطا ، ولأن المقصود أن يصلي على أكمل هيئات النظافة ، قال سند : إن تراخى يسيرا فلا شيء عليه ، وإن دام متعمدا استأنفه عند ابن القاسم ، وإن غلبه النوم فإن نسي الغسل وذكره في المسجد ، والوقت يتسع رجع فاغتسل ، وإلا فلا .

                                                                                                                الثاني : القراءة فيها جهرا بخلاف صلاة النهار ; لأن المقصود إظهار الشعائر ، ولذلك شرع فيها الخطبة والجمع في المكان الواحد والزينة ، وفي الجواهر : يقرأ فيها : بالجمعة في الأولى ، وبالمنافقين أو بسبح أو ( هل أتاك حديث الغاشية ) في الثانية ، وقاله ( ش ) ، خلافا ( ح ) ; لما في الموطأ : أنه - عليه السلام - كان يقرأ على إثر سورة الجمعة : ( هل أتاك حديث الغاشية ) .

                                                                                                                الثالث : قال سند : قال ابن حبيب : يؤمر لها بالطيب والزينة ، وقص الشارب ، والظفر ، ونتف الإبط ، والاستحداد ، والسواك ; لما في الصحيحين قال - عليه السلام - : الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن ، وأن يمس من الطيب ما قدر عليه ، ولو من طيب المرأة ، ومعنى الوجوب في هذا الحديث : تأكد السنة ، وقيل : يستعمل في معناه اللغوي وهو السقوط ، ومنه قوله تعالى : ( فإذا وجبت جنوبها ) أي : سقطت . ويدل على ذلك عطف ما ليس بواجب عليه من الطيب والزينة .

                                                                                                                [ ص: 350 ] الرابع في الجلاب : التهجير أفضل من التبكير خلافا لابن حبيب و ( ش ) ، واختلف الشافعية : هل أوله الفجر أو الشمس ؟ محتجين بقوله - عليه السلام - في الموطأ : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ; فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ، فحملوا الساعات على العادية ، وقسم مالك الساعة السادسة خمسة أقسام ، فحمل الحديث على هذه الأقسام ; حجته : أن الرواح لا يكون لغة إلا بعد الزوال ، ومنه قوله تعالى : ( غدوها شهر ورواحها شهر ) فالمجاز لازم على المذهبين ، ومذهبنا أقربهما للحقيقة فيكون أولى ، ولأنه عقب الخامسة بخروج الإمام وهو لا يخرج بعد الخامسة من ساعات النهار ، وإلا لوقعت الصلاة قبل الزوال ، وإذا بطل أحد المذهبين تعين الآخر ; إذ لا قائل بالفرق ، وبتقسيم السادسة قال صاحب المنتقى وصاحب الاستذكار ، والعيسي في شرح الرسالة ، وصاحب الطراز ، وقال اللخمي ، وابن بشير ، وصاحب المعلم ، وابن يونس ، وجماعة التقسيم : في السابعة ، والموجود لمالك إنما هو قوله : أرى هذه الساعات في ساعة واحدة ولم يعين فاختلف أصحابه في تفسير قوله على هذين القولين ، والأول هو الصحيح ; لأن حديث مسلم كان ينصرف من صلاة الجمعة والجدران ليس لها فيء ، وإذا كان - عليه السلام - يخرج في أول السابعة وقد قال في الحديث : " فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ; فإذا كان الإمام [ ص: 351 ] يخرج في أول السابعة بطل الحديث بالكلية ، ولا يمكن أن يقال إن تلك الأزمان أزمنة في غاية الصغر ، فإن الحديث يأباه والقواعد ; لأن البدنة والبيضة لا بد أن يكون بينهما من التعجيل والتأخير وتحمل المكلف من المشقة ما يقتضي هذا التفصيل ، وإلا فلا معنى للحديث ، ولا هذا الترغيب في المبادرة إلى طاعة الله تعالى .

                                                                                                                الخامس في الجلاب : الأذان الثاني آكد من الأول ، وهو الذي يحرم عنده البيع ، ويروى أن مؤذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا ثلاثة يؤذنون على المنابر ، واحدا بعد واحد فإذا فرغ الثالث قام - عليه السلام - فخطب إلى زمن عثمان كثر الناس ، أمر بأذان بالزوراء - وهي موضع السوق ليرتفع الناس منه عند الزوال ، فإذا جلس أذن على العادة إلى زمن هشام بن عبد الملك ، نقل أذان الزوراء إلى المسجد وجعله مؤذنا واحدا ; فإذا جلس أذن الجميع قدامه ، قال ابن حبيب : والسنة أولى بالاتباع ، وفي الكتاب يكره البيع عند الأذان والجلوس على المنبر ، فإن فعل فسخ ، ويكره ممن لا تجب عليهم الجمعة من المسلمين ، ولا يفسخ إلا أن يبايعهم من تجب عليه ، قال سند : إنما الخلاف إذا أذن ، ولم يقعد فظاهر الكتاب الجواز ، وروى ابن القاسم المنع ، والمذهب وجوب الرواح للخطبة لظاهر القرآن ، وقيل : للصلاة ، فعلى الأول : يجب السعي بمقدار ما يدرك من الخطبة ، قال ابن حبيب : ويؤمر بإقامة الناس من الأسواق ، والمعتبر من الأذان أوله ، ووافق ابن حنبل في فسخ البيع ممن تجب عليهم الجمعة ، وروي [ ص: 352 ] عن مالك إمضاؤه ، وقاله ( ح ) و ( ش ) . لنا أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، وجه الثاني : أن البيع سالم في نفسه من المفاسد ، وإنما منع صونا للصلاة عن الفوات ، فعلى القول الأول بالفسخ ففات ، مضى بالقيمة عند ابن القاسم وأشهب ، وبالثمن عند سحنون والمغيرة ; نظرا للنهي أو لسلامة العقد في نفسه ، والقيمة حين القبض عند ابن القاسم ، وبعد الجمعة عند أشهب مراعاة لوقت جواز البيع ، وإذا حصل ربح ، لم يحرم عند مالك ; لملك المبيع بالقيمة ، ويتصدق به عند ابن القاسم ، قال : ولا خلاف في منع كل ما يشغل عن السعي ، واختلف في فسخ النكاح على القول بفسخ البيع : فأجازه ابن القاسم ، وفسخه أصبغ ، واختلف في إلحاق الإجارة ، والفرق بين البيع وبينهما كثرته بخلافهما ; فتكون مفسدته أعظم ، والشركة والإقامة والتولية والأخذ بالشفعة ألحقها ابن عبد الحكم بالبيع ، قال : والحق أنها أخف ، وألحق عبد الوهاب الهبات والصدقات بالبيع ، قال : وعندي أنها تبرعات عبادات يتقرب بها وعادة الناس التصدق يوم الجمعة .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                فإن اضطر لشراء الماء للطهارة ، قال ابن أبي زيد : يشتريه ; لأنه إعانة على الجمعة لا صارف عنها ، قال : أما إن كان البائع من أهل الجمعة ففيه نظر لاشتغاله عنها .

                                                                                                                السادس : قال ابن القاسم في الكتاب : من وجبت عليه الجمعة فصلى ظهرا في بيته لا يجزيه ، قال سند : قال ابن نافع : يجزيه ; لأنه لو أعاد لأعاد أربعا [ ص: 353 ] مثل الأولى ، ومنشأ الخلاف : هل فرض الوقت : الجمعة لا يجب إسقاطها فلا يجزئ ، أو الظهر ويجب إسقاطه بالجمعة ، وقد فات ما يجب به الإسقاط فيجزئ ؟

                                                                                                                السابع في الكتاب : يتنفل الإمام بعد الجمعة في بيته دون المسجد ; لما في الصحيحين : كان - عليه السلام - لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته ، ولعموم قوله تعالى : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) ، قال : وكذلك من خلفه ، فإن ركعوا فواسع .

                                                                                                                الثامن : في الكتاب : يصلي الظهر من لا تجب عليه الجمعة بإمام ; بخلاف من تجب عليه ، ووافق ( ش ) في الأولين ، وخالف ( ح ) بالكراهة ; لأن زمانه - عليه السلام - لا يخلو عن المعذورين ، ولم يأمرهم بذلك - عليه السلام - . لنا أدلة فضل الجماعة ، قال سند : وفي الواضحة : يستحب تأخيرهم حتى تفوت الجمعة ، وقاله ( ش ) ، وظاهر الكتاب خلافه ، ويستحب لهم إخفاء صلاتهم لئلا يتهموا ، ولا يؤذنون ; لأن الأذان يومئذ من سنة الجامع ، قال المازري : قال ابن القاسم : لا يجمع الخائف ولا المتخلف لعذر المطر الذي هو غير عام ; لإمكان الأمن في الأول ، وتحمل المشقة في الثاني وإن كان لا يجب ، أما إذا كان عاما ، قال اللخمي : الأحسن جمع أرباب الأعذار كلهم ، أما من تجب عليهم الجمعة ، فروى [ ص: 354 ] أشهب يجمعون ، واستحبه ( ش ) ، وجه المذهب ، سد ذريعة البدع . وإذا قلنا : لا يجمعون فجمعوا ; أجزأهم .

                                                                                                                التاسع في الكتاب : يتخطى إلى الفرج برفق قبل جلوس الإمام ، فإذا جلس فلا ; لما في أبي داود أن رجلا تخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - عليه السلام - يخطب ، فقال له النبي : اجلس فقد آذيت الناس ، ولأنه يمنع الإنصات ، وكرهه ( ش ) مطلقا لعموم الأداء ، ومرعاة الفرج أولى ممن تخلف عن سدها ، ومن قام لحاجة على وجه العود ، فهو أحق بموضعه .

                                                                                                                العاشر ، قال سند : لا يقام عند مالك و ( ش ) في جامعين ، وقال ابن عبد الحكم : إذا كبر المصر واحتاجوا إلى ذلك يجوز ، وقال ابن القصار : إن كانت المصر ذات جانبين جاز ، وجوزه محمد بن الحسن مطلقا في مسجدين ، وداود في سائر المساجد . لنا أن وجوب السعي يأبى الإقامة مطلقا إلا ما خصه الدليل ، ولأنه - عليه السلام - فعله والخلفاء بعده ، فلو جاز ذلك لم تعطل المساجد في زمانهم ، فهو إجماع ; فلو صليت في مسجدين ، فقال مالك : الجمعة لأهل المسجد العتيق ، وقال بعض الشافعية للسابقين ، وهل بالإحرام أو بالسلام قولان ؟ لنا أن الثاني لم يتفق عليه جامعا ، فلا تصح الجمعة فيه لفقدان شرطه ، ولأنه لو جاز ذلك لأمكن كل جماعة إفساد جمعة المصر ، فلو أنشئت قرية يصلى فيها جمعتان ; فإن كانت إحداهما بتولية السلطان فالجمعة له ، وإلا فمن سبق بالإحرام ; لوجوب متابعته حينئذ : وإن جهل السبق فسدتا ، وقال المزني : تصحان ; لأن البناء على الصحة فلا يبطل بالشك . لنا أن الذمة مشغولة [ ص: 355 ] وشككنا في السبق المبرئ فتبقى مشغولة ، وإذا حكمنا بالفساد ، وسبقت إحداهما أو جهل سبقهما ، أعادوا جميعا أربعا ; لقطعنا بتأدي الجمعة ، فلا يجزئ أحدا بعد ذلك جمعة - إن علمت المقارنة ، وإن جهل الحال ، فالأحوط يصلون جمعة ويعيدون ظهرا أفذاذا .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية