الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان آفات المناظرة وما يتولد منها .

من مهلكات الأخلاق
.

اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدق عند الناس وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدو الله إبليس .

ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة .

وكما أن الذي خير بين الشرب والفواحش وسائر الفواحش استصغر الشرب فأقدم عليه فدعاه ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره فكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه جميع الأخلاق المذمومة .

وهذه الأخلاق ستأتي أدلة مذمتها من الأخبار والآيات في ربع المهلكات ولكنا نشير الآن إلى مجامع ما تهيجه المناظرة فمنها الحسد وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .

ولا ينفك المناظر عن الحسد فإنه تارة يغلب وتارة يغلب وتارة يحمد كلامه وأخرى يحمد كلام غيره .

فما دام يبقى في الدنيا واحد يذكره بقوة العلم والنظر أو يظن أنه أحسن منه كلاما وأقوى نظرا فلا بد أن يحسده ويحب زوال النعم عنه وانصراف القلوب والوجوه عنه إليه والحسد نار محرقة فمن بلي به فهو في العذاب في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأعظم ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما خذوا العلم حيث وجدتموه ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة .

التالي السابق


(بيان آفات المناظرة وما يتولد منها)

في الجانبين (من مهلكات الأخلاق) وقواتلها (اعلم) أيها الإنسان (وتحقق) في نفسك (أن المناظرة الموضوعة) التي ابتدعوها الآن (لقصد الغلبة) على الخصم (والإفحام) أي: الإسكات (وإظهار الفضل) والمزية (والتشرف) وفي نسخة: والشرف (عند الناس) في المحافل (وقصد المباهاة) أي: المفاخرة (والمماراة) أي: المخاصمة (واستمالة) أي: طلب ميل وصرف (وجوه الناس) بالالتفات (هي منبع جميع الأخلاق المذمومة) المعكوسة (عند الله) تعالى (المحمودة عند عدو الله إبليس) لعنه الله، والشيء قد يكون محمودا ومذموما باختلاف النسب والإضافات (ونسبتها) أي: المناظرة (إلى الفواحش الباطنة) المعقولة (من) نحو (الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها) على ما سيأتي بيانها في المهلكات (نسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة) المحسوسة (من) نحو (الزنا والقذف والقتل والسرقة) وغيرها (وكما أن الذي خير بين الشرب) أي: بين أن يشرب الخمر (و) بين ارتكاب (سائر الفواحش) كقتل وزنا وغير ذلك (استصغر الشرب) أي: عده صغيرا (فأقدم عليه) فشربه (فدعاه ذلك) وحمله (إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره) فزنى وقتل وفعل ما فعل وذلك لكونه جماع الإثم ومفسد العقل ومفسدا للدنيا والدين وقد ورد في شربه أحاديث يأتي بيانها في مواضعها (وكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه) عند ذويه (والمباهاة به دعاه ذلك) وجره (إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه) أي في الإنسان (جميع الأخلاق) الرذيلة (المذمومة) المعكوسة (وهذه الأخلاق) بتمامها (سيأتي) بيانها وتأتي (أدلة مذمتها) المستنبطة (من الأخبار) الواردة (والآيات في ربع المهلكات) إن شاء الله [ ص: 294 ] تعالى (ولكنا نشير الآن) بحسب المقام (إلى مجامع ما تهيجه المناظرة) وتبعثه عليه (فمنها الحسد) وهو تسخط قضاء الله والاعتراض عليه وهو مذموم قال الله تعالى: ومن شر حاسد إذا حسد (وقد قال صلى الله عليه وسلم: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) لأنه اعتراض على الله فيما لا عذر للعبد فيه؛ لأنه لا يضره نعمة الله على عبده فالله لا يعبث ولا يضع الشيء في غير محله فكأنه نسب ربه للجهل والسفه ولم يرض بقضائه والحاسد معاقب بالغيظ الدائم في الدنيا وفي الآخرة بإحباط الحسنات، قال العراقي: أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة قال البخاري: لا يصح وهو عند ابن ماجه من حديث أنس بإسناد ضعيف وفي تاريخ بغداد بإسناد حسن. اهـ .

قلت: أما أبو داود فأخرجه من رواية إبراهيم بن أبي أسيد عن جده عن أبي هريرة بلفظ: إياكم والحسد فإن الحسد، فذكره، وجده، قال الذهبي: لعله سالم البراد ثقة وقول البخاري لا يصح هو في تاريخه الكبير وأما حديث أنس الذي أخرجه ابن ماجه فمن رواية عيسى الحناط عن أبي الزناد عنه وعيسى الحناط ضعيف وفي ترجمته رواه ابن عدي في الكامل وقال: هو متروك الحديث وفي هذا الحديث زيادة في آخره والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار والصلاة نور المؤمن والإيمان جنة من النار.

وقال ابن عدي في الكامل: ورواه واقد بن سلامة، وقيل: سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس هكذا، ورواه الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عنه عن يزيد ورواه ابن لهيعة عن محمد بن واقد عن أنس ولا يصح قال أبو بكر بن أبي دواد والصواب عن يزيد عن أنس، وفيه زيادات ذكر الصلاة والصيام والصدقة. اهـ .

ورواه الخطيب في تاريخ بغداد وليس فيه عيسى الحناط وفي الباب عن ابن عمر ومعاوية بن حيدة، فحديث ابن عمر رواه الدارقطني في غرائب مالك من رواية مالك والليث عن نافع عنه وقال باطل، ورواية معاوية أخرجه الديلمي عن معاوية بن حيدة الحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل.

وفي الباب أيضا حديث الزبير أخرجه ابن عبد البر في كتاب العلم بلفظ: دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء (ولا تنفك المناظرة عن الحسد فإنه) أي: المناظر (تارة يغلب) على خصمه (وتارة يغلب) منه (وتارة يحمد كلامه وأخرى) وفي نسخة: وتارة (يحمد كلام غيره) بحسب المقامات (فما دام يبقى في الدنيا واحد) أي في الحياة (يذكر بقوة العلم و) وحدة (النظر) وحسن الفهم (أو يظن أنه أحسن منه كلاما) وسياقا وسردا (أو أقوى نظرا) في المسائل (فلا بد أن يحسده) ويتسخط عليه باطنا (ويحب زوال النعم عنه وانصراف الوجوه والقلوب عنه إليه) بل يحب هلاكه كيف أمكن ليخلو له الميدان وهذا محسوس مشاهد (والحسد) في الحقيقة (نار محرقة) وإليه يشير قول الشاعر :

اصبر على غصص الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل نفسها
إن لم تجد ما تأكله

(من بلي به فهو في العذاب الدائم في الدنيا) معاقب بغيظه لا ينفك عنه (ولعذاب الآخرة أشد وأعظم) بإحباط الحسنات ومن ثم كان من الكبائر وقال بعضهم ينشأ من الحسد إفساد الطاعات وفعل المعاصي والشرور والتعب والهم بلا فائدة وغم القلب حتى لا يكاد يفهم حكما من أحكام الله تعالى والحرمان والخذلان فلا يكاد يظفر بمراد (ولذا قال ابن عباس) -رضي الله عنه- فيما روي من قوله (خذوا العلم حيث وجدتموه ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم في بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة) رواه ابن عبد البر في كتاب العلم بلفظ: استمعوا قول القراء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زروبها، قال: وعن مالك بن دينار يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض. اهـ .

وقال ابن السبكي: رأيت في كتاب معين الحكام لابن عبد البر المالكي وقع في المبسوطة عن قول عبد الله بن وهب أنه لا يجوز شهادة القارئ على القارئ يعني العلماء؛ لأنهم أشد تحاسدا وتباغضا وقاله سفيان ومالك بن دينار. اهـ. قال ابن السبكي: وليس هذا على الإطلاق ولكن من ثبتت عدالته لا يلتفت فيه إلى قول من تشهد القرائن متحامل عليه إما لتعصب مذهبي أو غيره. اهـ .

قلت: والجملة الأولى [ ص: 295 ] من قول ابن عباس لها شاهد قوي من قوله فيما رواه سليمان بن معاذ عن عكرمة عنه خذوا الحكمة ممن سمعتموه، وفي المدخل للبيهقي من رواية حسن بن صالح عن عكرمة، عنه خذ الحكمة ممن سمعت وأما قول مالك بن دينار فأورده أبو نعيم في الحلية بسنده إليه قال: تجوز شهادة في كل شيء إلا شهادة القراء بعضهم على بعض فإنهم أشد تحاسدا من التيوس في الزروب .

وأخرج في ترجمة كعب الأحبار من قوله: يوشك أن تروا جهال الناس يتباهون في العلم ويتغايرون عليه كما تتغاير النساء على الرجال فذلك حظهم من العلم. اهـ .

والتغاير تفاعل من الغيرة والزريبة خطيرة للغنم تتخذ من خشب كالزرب والجمع الزرائب وجمع الزرب الزروب .




الخدمات العلمية