الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم

                                                                                                                                                                                              [قال البخاري ] : "باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنا أعلمكم بالله "، وأن المعرفة فعل القلب، لقوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم

                                                                                                                                                                                              مراده بهذا التبويب: أن المعرفة بالقلب التي هي أصل الإيمان فعل للعبد وكسب له، واستدل بقوله تعالى: بما كسبت قلوبكم فجعل للقلوب كسبا، كما جعل للجوارح الظاهرة كسبا .

                                                                                                                                                                                              والمعرفة: هي مركبة من تصور وتصديق، فهي تتضمن علما وعملا، وهو تصديق القلب، فإن التصور قد يشترك فيه المؤمن والكافر . والتصديق يختص به المؤمن، فهو عمل قلبه وكسبه . وأصل هذا: أن المعرفة مكتسبة، تدرك بالأدلة، وهذا قول أكثر أهل السنن من أصحابنا وغيرهم، ورجحه ابن جرير الطبري . [ ص: 173 ] وروى بإسناده، عن الفضيل بن عياض ، أنه قال: أهل السنة يقولون: الإيمان: المعرفة والقول والعمل . وقالت طائفة: إنها اضطرارية، لا كسب فيها . وهو قول بعض أصحابنا، وطوائف من المتكلمين والصوفية وغيرهم . وخرج البخاري في هذا الباب: حديث: هشام ، عن أبيه، عن عائشة ، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" .

                                                                                                                                                                                              كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بما يطيقون من الأعمال، وكانوا لشدة حرصهم على الطاعات يريدون الاجتهاد في العمل، فربما اعتذروا عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفق، واستعماله له في نفسه، أنه غير محتاج إلى العمل بضمان المغفرة له، وهم غير مضمون لهم المغفرة، فهم محتاجون إلى الاجتهاد، ما لا يحتاج هو إلى ذلك، فكان - صلى الله عليه وسلم - يغضب من ذلك، ويخبرهم أنه أتقاهم لله وأعلمهم به . فكونه أتقاهم لله يتضمن شدة اجتهاده في خصال التقوى، وهو العمل . وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله . وإنما أراد علمه بالله، لمعنيين:

                                                                                                                                                                                              أحدهما: زيادة معرفته بتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته [ ص: 174 ] وكبريائه، وما يستحقه من الجلال والإكرام والإجلال والإعظام .

                                                                                                                                                                                              والثاني: أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين; فإنه رآه، إما بعين بصره . أو بعين بصيرته . كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: رآه بفؤاده مرتين . . وعلمهم به مستند إلى علم يقين، وبين المرتبتين تباين . ولهذا سأل إبراهيم - عليه السلام - ربه أن يرقيه من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين، بالنسبة إلى رؤية إحياء الموتى، وقد سبق التنبيه على ذلك والكلام في تفاصيل المعرفة القائمة بالقلب . فلما زادت معرفة الرسول بربه، زادت خشيته له وتقواه، فإن العلم التام يستلزم الخشية، كما قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم، كان له أخشى وأتقى، وإنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله . وقد خرج البخاري في آخر: "صحيحه " عن مسروق ، قال: قالت عائشة : صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا، ترخص فيه، وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله، ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله; إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية" . وفي "صحيح مسلم " عن عائشة ، أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إني أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا [ ص: 175 ] أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم " . فقال الرجل: يا رسول الله، إنك لست مثلنا، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " . وفي حديث أنس ، أن ثلاثة رهط جاءوا إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - . يسألون عن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا، فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أصوم الدهر ولا أفطر . وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا . فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا; أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني " . وقد خرجاه في "الصحيحين " بمعناه . ففي هذه الأحاديث كلها: الإنكار على من نسب إليه التقصير في العمل للاتكال على المغفرة، فإنه كان يجتهد في الشكر أعظم الاجتهاد، فإذا عوتب على ذلك، وذكرت له المغفرة، أخبر أنه يفعل ذلك شكرا . كما في "الصحيحين " عن المغيرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فيقال له: تفعل هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . فيقول: "أفلا أكون عبدا شكورا" . وقد كان يواصل في الصيام وينهاهم، ويقول: "إني لست كهيئتكم، إني أظل [ ص: 176 ] عند ربي يطعمني ويسقيني " . فنسبة التقصير إليه في العمل لاتكاله على المغفرة خطأ فاحش، لأنه يقتضي أن هديه ليس هو أكمل الهدي وأفضله، وهذا خطأ عظيم، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: "خير الهدي هدي محمد" . ويقتضي - أيضا - هذا الخطأ أن الاقتداء بهديه في العمل ليس هو أفضل . بل الأفضل الزيادة على هديه في ذلك، وهذا خطأ عظيم جدا; فإن الله تعالى قد أمر بمتابعته، وحث عليها، قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم فلهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يغضب من ذلك غضبا شديدا، لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعته والاقتداء به . أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم " . وفي رواية للإمام أحمد : "والله، إني لأعلمكم بالله، وأتقاكم له قلبا" . أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم " . وقوله في الرواية التي خرجها البخاري في هذا الباب: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"، فيه: الإتيان بالضمير المنفصل مع تأتي الإتيان بالضمير المتصل، وهو ممنوع عند أكثر النحاة، إلا للضرورة، كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                              ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير



                                                                                                                                                                                              وإنما يجوز اختيارا، إذا لم يتأت الإتيان بالمتصل، مثل أن تبتدئ بالضمير قبل عامله، نحو: إياك نعبد فإنه لا يبتدأ بضمير متصل، أو يقع بعد نحو: "إلا إياه " . [ ص: 177 ] فأما قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                              أن لا يجاورنا إلاك ديار



                                                                                                                                                                                              فشاذ .

                                                                                                                                                                                              وأما قوله: وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي فهو - عندهم - متأول على أن فيه معنى الاستثناء . كأنه قال: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا . ولكن; هذا الذي وقع في هذا الحديث يشهد لجوازه من غير ضرورة . ويكون حينئذ قوله: "إنما يدافع عن أحسابهم أنا" شاهدا له، غير محتاج إلى تأويل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية