الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 96 ]

                مع تقريب الإفهام على الأفهام ، وإزالة اللبس عنه مع الإبهام . حاويا لأكثر من علمه ، في دون شطر حجمه ، مقرا له غالبا على ما هو عليه من الترتيب ، وإن كان ليس إلى قلبي بحبيب ولا قريب . سائلا من الله تعالى وفور النصيب ، من جميل الأجر ، وجزيل الثواب ، ودعاء مستجاب ، وثناء مستطاب ، اللهم فهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .

                التالي السابق


                قوله : " مع تقريب الإفهام " هو مكسور الهمزة ، وهو التفهيم أيضا ، يقال : أفهمته إفهاما ، وفهمته تفهيما ، فهما مصدران لفعلين من المادة ، كالإكرام والتكريم ، غير أن التفهيم والتكريم يفيد المبالغة والتكرير على الأفهام ، وهو بفتح الهمزة جمع فهم ، وهو القوة التي يدرك بها معنى الكلام ، والمعنى : أني مع اختصار الكتاب لفظا والزيادة فيه معنى ، قربته على الأفهام بتسهيل ألفاظه ووضعها مواضعها ، بحيث إن من سمع ظواهر ألفاظه مطلقا أو غالبا ، فهم باطن معانيه ، ورب عبارة ليست كذلك ، بل يحتاج في تنزيلها على المراد إلى تكلف وتعسف ، وهذا المراد بقوله : " وإزالة الإبهام " بالباء الموحدة ، ويصح أن يكون بالياء المثناة من أسفل ، وفيه من حيث اللفظ لبس ، لكنه من حيث القرينة وسياق الكلام زائل . أما وجه اللبس من حيث اللفظ ، فإن قوله : " مع الإبهام " يحتمل أني أزلت اللبس والإبهام فاصطحبا في الزوال عن الكلام وهذا هو المراد ، وعليه دل سياق [ ص: 97 ] الكلام وقرينته ، لأنه وصفه بالتقريب والظهور ، ولا يتحقق إلا بذلك .

                ويحتمل أني ألفت الكتاب مع الإبهام ، فيكون الاصطحاب بين التأليف والإبهام في الوقوع ، لكنه ليس مرادا ، لأنه ينافي سياق الكلام ، ويناقض قوله : " مع تقريب الإفهام على الأفهام " وأما زوال اللبس من حيث القرينة فبما ذكرته .

                والإبهام : هو اشتباه جهات الحق ، فلا تعلم عين جهته يقال : أمر مبهم : لا يدرى ما وجهه .

                قوله : " حاويا لأكثر من علمه " أي لأكثر من علم كتاب " الروضة " " في دون شطر حجمه " أي : نصف مقداره ، وهذا التقدير معروف بالعيان لمن قابل بين الكتابين . و " حاويا " : منصوب على الوجهين في قوله : " غير خال " ويجوز على الوجه الثالث فيه .

                قوله : " مقرا له غالبا على ما هو عليه من الترتيب ، وإن كان ليس إلى قلبي بحبيب ولا قريب " مقرا : في إعرابه الوجوه الثلاثة المذكورة في " غير خال " .

                ومعنى الكلام : أن غالب ترتيب الشيخ أبي محمد في " الروضة " أقررته على ما هو عليه لم أغيره ، وإن كان ترتيبه ليس بحبيب إلي ، ولا قريب إلى قلبي ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وذلك لأني مختصر لكتابه ، وحقيقة الاختصار : هو ذكر جميع المعنى دون اللفظ ، وتغيير الترتيب لا مدخل له في ذلك ، غير أني تصرفت في ترتيبه تصرفا ما ، بحسب ما ينبغي ويقرب على الفهم .

                فمن ذلك تقديم المقدمة المذكورة أوله ، لاشتمالها على فصول هي كليات للكتاب ، أو كالكليات ، وتقديم الأمور الكلية على الجزئية معلوم الحسن بمناسبة العقل ، لأن الكليات هي قواعد يرد إليها ، وينبني عليها جزئيات العلم المتكلم [ ص: 98 ] فيه .

                ووجه عدم محبتي لترتيب الشيخ أبي محمد وقربه من قلبي أنه رتب كتابه على ثمانية أبواب ، هكذا : حقيقة الحكم وأقسامه ، ثم تفصيل الأصول الأربعة ، ثم بيان الأصول المختلف فيها ، ثم تقاسيم الأسماء ، ثم الأمر والنهي ، والعموم والاستثناء ، والشرط ، ودليل الخطاب ، ونحوه ، ثم القياس ، ثم حكم المجتهد ، ثم الترجيح .

                وقد كان القياس تقديم تقاسيم الأسماء ، وهو الكلام في اللغات لتوقف معرفة خطاب الشرع على فهمها ، لوروده بها ، لكن العذر للشيخ أبي محمد عن هذا أنه تابع في كتابه الشيخ أبا حامد الغزالي في " المستصفى " حتى في إثبات المقدمة المنطقية في أوله ، وحتى قال أصحابنا وغيرهم ممن رأى الكتابين : إن " الروضة " مختصر " المستصفى " ويظهر ذلك قطعا في إثباته المقدمة المنطقية ، مع أنه خلاف عادة الأصوليين من أصحابنا وغيرهم ، ومن متابعته على ذكر كثير من نصوص ألفاظ الشيخ أبي حامد .

                فأقول : إن الشيخ أبا محمد التقط أبواب " المستصفى " ، فتصرف فيها بحسب رأيه ، وأثبتها ، وبنى كتابه عليها ، ولم ير الحاجة ماسة إلى ما اعتنى به الشيخ أبو حامد من درج الأبواب تحت أقطاب الكتاب ، أو أنه أحب ظهور الامتياز بين الكتابين باختلاف الترتيب ، لئلا يصير مختصرا لكتابه ، وهو إنما يصنع كتابا مستقلا في غير المذهب الذي وضع فيه أبو حامد كتابه ، لأن أبا حامد أشعري شافعي ، وأبو محمد حنبلي أثري ، وهو طريقة الحكماء الأوائل وغيرهم ، لا تكاد تجد لهم كتابا في طب أو فلسفة إلا وقد ضبطت مقالاته وأبوابه في أوله ، بحيث يقف الناظر الذكي من مقدمة الكتاب على ما في أثنائه من تفاصيله . [ ص: 99 ]

                أبو حامد المنهج ، وجعل كتابه دائرا على أربعة أقطاب :

                الأول : في الأحكام والبداية بها ، لأنها الثمرة المطلوبة .

                والثاني : في الأدلة المثمرة للأحكام ، إذ ليس بعد معرفة الثمرة أهم من معرفة المثمر .

                الثالث : في طريق الاستثمار ، وهو بيان وجه دلالة على الأحكام في المنطوق وغيره .

                الرابع : في المستثمر ، وهو المجتهد المستخرج للحكم من الدليل .

                ولما كان المقلد يقابله ، وجب بيان حكمه عنده ، ثم بين كيفية اندراج تفاصيل أصول الفقه مع كثرتها تحت هذه الأقطاب الأربعة بيانا ثانيا أبسط من هذا ، وهو واضح ظاهر ، ولم أذكره لطوله ، ثم بين تفاصيل ذلك بيانا ثالثا على عادة الأصوليين في استيفاء التفصيل .

                وقد يورد على أبي حامد في ترتيبه أنه كان يقدم الأدلة ، ثم الأحكام ، ثم وجه الاستدلال بالأدلة ، ثم أحكام المجتهدين ، لأن الترتيب الوجودي في اجتناء الأثمار من الأشجار الذي جعله نظيرا لاستخراج الأحكام من الأدلة كذلك ، لأن الشجرة قبل الثمرة ، ثم إذا وجدت الثمرة توصل المجتني إلى تحصيلها ، غير أن أبا حامد قد نبه على جواب هذا بقوله : لأنها الثمرة المطلوبة ، إشارة إلى تقديم ما هو مطلوب لغيره ، وهو الأدلة ووجه دلالتها . [ ص: 100 ]

                وأما المقدمة المنطقية فقد بين الشيخ أبو حامد أنها لا تختص بعلم الأصول ، بل هي آلة لكل علم ، وإنما هي في أصول الفقه كالعلاوة ألحقها بعض من غلب عليه الكلام به لشدة الفهم له ، والفطام عن المألوف شديد ، ولذلك كل من غلب عليه علم وألفه ، مزج به سائر علومه ، يعرف ذلك باستقراء تصانيف الناس ، وبهذا تبين أن الشيخ أبا محمد كان في كتابه متابعا لأبي حامد ، لأن الشيخ أبا محمد لم يكن متكلما ولا منطقيا حتى يقال : غلب عليه علمه المألوف ، فلما ألحق المقدمة بكتابه ، دل على أن ذلك لمحض المتابعة ، وقد أخبرنا الثقات أن الشيخ إسحاق العلثي عاتب أبا محمد في إلحاقه هذه المقدمة ، وأنكر عليه ، فأسقطها من " الروضة " بعد أن انتشرت بين الناس فلهذا توجد في نسخة دون نسخة ، فتركي لاختصارها في جملة الكتاب كان لأمور :

                أحدها : ما صح عنه من رجوعه .

                والثاني : أن النسخة التي اختصرت منها لم تكن المقدمة فيها .

                والثالث : وهو المعول عليه أني أنا لا أحقق ذلك العلم ، ولا الشيخ أيضا كان يحققه ، فلو اختصرتها لظهر بيان التكليف عليها من الجهتين ، فلا يتحقق [ ص: 101 ] الانتفاع بها للطالب ، ويقطع عليه الوقت ، فمن أراد ذلك العلم فعليه بأخذه من مظانه من شيوخه وكتبه ، وإذا كان الشيخ أبو حامد الذي هو الأصل في ذلك ولم يعلم أحد قبله ألحق المنطق بأصول الفقه ، اقتصر في مقدمة كتابه ، وأحال من أراد الزيادة في ذلك على كتابيه : " معيار العلم " و " محك النظر " فمن هو تبع له في ذلك أولى بالإحالة على كتب الفن ، ولم نعلم أحدا تابع أبا حامد من المتأخرين على إلحاق المنطق بالأصول إلا ابن الحاجب ، وحسبك من ذلك أن الإمام فخر الدين الذي هو إمام المتأخرين في المنطق والكلام ولم يذكر في كتبه الأصولية شيئا منه .



                وقد رتب جماعة من الأصوليين أصول الفقه ترتيبا حسنا ، فمنهم الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله على ما حكينا عنه ، ومنهم الشيخ سيف الدين الآمدي رحمه الله في " المنتهى " وغيره ، فإنه رتبه على أربعة أصول :

                الأول : في تحقيق مبادئه .

                الثاني : في الدليل وأقسامه وأحكامه .

                الثالث : في أحوال المجتهدين والمفتين والمستفتين .

                الرابع : في ترجيحات طرق المطلوبات .

                وهو ترتيب مختصر جامع انتظم جميع ما يحتاج إليه في هذا العلم ، على ما فصله في كتابه ، ويقع التنبيه عليه عند ذكرنا تقسيم غيره .

                ومنهم الشيخ أبو إسحاق في " اللمع " حيث قال : وأما أصول الفقه ، فهي الأدلة التي يبنى عليها الفقه ، وما يتوصل به إلى الأدلة على سبيل الإجمال .

                والأدلة هاهنا : خطاب الله عز وجل ، وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأفعاله وإقراره ، [ ص: 102 ] وإجماع الأمة ، والقياس ، والبقاء على حكم الأصل عند عدم هذه الأدلة ، وفتيا العالم في حق العامة . وما يتوصل به إلى الأدلة ، فهذا الكلام على تفصيل هذه الأدلة ووجوبها وترتيب بعضها على بعض .

                وأول ما نبدأ به : الكلام في خطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنهما أصل لما سواهما من الأدلة ، ويدخل في ذلك أقسام الكلام ، والحقيقة والمجاز ، والأمر والنهي ، والعموم والخصوص ، والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ .

                ثم الكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره ، لأنها تجري مجرى أقواله في البيان .

                ثم الكلام في الأخبار لأنها طريق إلى معرفة ما ذكرناه من الأقوال والأفعال .

                ثم الكلام في الإجماع ، لأنه ثبت كونه دليلا بخطاب الله عز وجل ، وخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعنهما ينعقد الإجماع .

                ثم الكلام في القياس لأنه ثبت كونه دليلا بما ذكرناه من الأدلة وإليها يستند .

                ثم ذكر حكم الأشياء في الأصل ، لأن المجتهد إنما يفزع إليه عند عدم هذه الأدلة .

                ثم نذكر فتيا العالم ، وصفة المفتي والمستفتي ، لأنه إنما يصير طريقا للحكم بعد العلم بما ذكرناه .

                ثم نذكر الاجتهاد ، وما يتعلق به بعد ذلك إن شاء الله تعالى ، هذا كلام الشيخ أبي إسحاق بلفظه .

                ومنهم الإمام فخر الدين أبو عبد الله الرازي رحمه الله ، قال في " المحصول " : الفصل العاشر في ضبط أبواب أصول الفقه : وقد عرفت أن أصول الفقه عبارة عن [ ص: 103 ] مجموع طرق الفقه ، وكيفية الاستدلال بها ، وكيفية حال المستدل بها .

                أما الطرق : فهي إما عقلية ، ولا مجال لها عندنا في الأحكام ، خلافا للمعتزلة حيث قالوا : حكم العقل في المنافع الإباحة ، وفي المضار التحريم . أو سمعية ، وهي إما منصوصة أو مستنبطة .

                أما المنصوصة : فهي إما قول أو فعل يصدر عمن لا يجوز الخطأ عليه ، وهو الله تعالى ورسوله ومجموع الأمة ، والصادر عن الرسول وعن الأمة إما قول أو فعل ، والفعل لا يدل إلا مع القول ، فتكون الدلالة القولية مقدمة على الدلالة الفعلية ، والدلالة القولية إما أن يكون النظر في ذاتها ، وهي الأوامر والمناهي . وإما في عوارضها ، إما بحسب متعلقاتها ، وهي العموم والخصوص ، أو بحسب كيفية دلالتها ، وهي المجمل والمبين ، والنظر في الذات مقدم على النظر في العوارض ، فلا جرم باب الأمر والنهي مقدم على باب العموم والخصوص .

                ثم النظر في العموم والخصوص نظر في متعلق الأمر والنهي ، والنظر في المجمل والمبين نظر في كيفية تعلق الأمر والنهي بتلك المتعلقات ، ومتعلق الشيء مقدم على النسب العارضة بين الشيء ومتعلقه ، فلا جرم قدم باب العموم والخصوص على باب المجمل والمبين ، وبعد الفراغ منه لا بد من باب الأفعال .

                ثم هذه الدلالة تارة ترد لإثبات الحكم ، وتارة لرفعه ، فلا بد من باب النسخ ، وإنما قدمناه على باب الإجماع ، لأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وكذا القياس ، ثم ذكرنا بعده باب الإجماع ، ثم هذه الأقوال والأفعال قد يحتاج إلى التمسك بها من لم يشاهد من صدرت عنه ، ولا أهل للإجماع فلا تصل إليه هذه الدلالة إلا [ ص: 104 ] بالنقل ، فلا بد من البحث عن النقل الذي يفيد العلم ، والنقل الذي يفيد الظن ، وهو باب الأخبار .

                وهذه جملة أبواب أصول الفقه بحسب الدلائل المنصوصة .

                ولما كان التمسك بالمنصوصات إنما يمكن بواسطة اللغات وجب تقديم باب اللغات على الكل .

                وأما الدليل المستنبط فهو القياس .

                فهذه أبواب طرق الفقه .

                أما أبواب كيفية الاستدلال بها ، فهو باب الترجيح .

                وأما كيفية حال المستدل بها ، فالذي ينزل حكم الله تعالى به ، إن كان عالما فلا بد له من الاجتهاد ، وهو باب شرائط الاجتهاد وأحكام المجتهدين ، وإن كان عاميا ، فلا بد له من الاستفتاء ، وهو باب المفتي والمستفتي .

                ثم نختم الأبواب بذكر أمور اختلف المجتهدون في كونها طرقا إلى الأحكام الشرعية .

                فهذه مجموع أبواب أصول الفقه : أولها اللغات ، ثم الأمر والنهي ، ثم العموم والخصوص ، ثم المجمل والمبين ، ثم الأفعال ، ثم الناسخ والمنسوخ ، ثم الإجماع ، ثم الأخبار ، ثم القياس ، ثم الترجيح ، ثم الاجتهاد ، ثم الاستفتاء ، ثم الأمور المختلف في كونها طرقا للأحكام ، فهي ثلاثة عشر بابا .

                هذا كلامه بلفظه إلا أحرفا يسيرة لخصتها منه .

                ولم يذكر المطلق والمقيد ، لأنه أدرجه في كتاب العموم والخصوص ، وهذا تقسيم وترتيب لا مزيد عليه .

                ومنهم الشيخ الإمام الأوحد شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس المالكي ، المعروف بالقرافي ، جعل كتابه " التنقيح " مشتملا على مائة فصل وفصلين يجمعها عشرون بابا . [ ص: 105 ]

                الباب الأول في الاصطلاحات ، ثم في معاني الحروف ، ثم في تعارض مقتضيات الألفاظ ، ثم في الأوامر ، ثم في النواهي ، ثم في العمومات ، ثم في أقل الجمع ، ثم في الاستثناء ، ثم في الشروط ، ثم في المطلق والمقيد ، ثم في دليل الخطاب ، ثم في المجمل والمبين ، ثم في فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم في النسخ ، ثم في الإجماع ، ثم في الأخبار ، ثم في القياس ، ثم في التعارض والترجيح ، ثم في الاجتهاد ، ثم في أدلة المجتهدين .

                وهو قريب من الترتيب قبله ومقتضب منه ، وهو كثيرا ما يأتم بالإمام أبي عبد الله الرازي فيما يصح عنده ، على جهة التأدب والاعتراف بالفضيلة .

                ومنهم من مشايخ أصحابنا القاضي أبو يعلى رحمه الله ، قال في " العدة " : الذي نقول : إن أصول الفقه وأدلة الشرع ثلاثة أضرب : أصل ، ومفهوم أصل ، واستصحاب حال . والأصل : ثلاثة أضرب : الكتاب والسنة وإجماع الأمة . والكتاب ضربان : مجمل ومفصل . والسنة ضربان : مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنقول عنه .

                والكلام في المنقول ، في سنده من حيث التواتر والآحاد ، وفي متنه من حيث هو قول أو فعل أو إقرار على واحد منهما ، والإجماع يذكر .

                ومفهوم الأصل : ثلاثة أضرب : مفهوم الخطاب ، ودليله ، ومعناه . واستصحاب الحال : ضربان : أحدهما : استصحاب براءة الذمة ، والثاني : استصحاب حكم الإجماع بعد الخلاف . هذا حاصل كلامه لخصته أنا ، وفي ظاهر لفظه مناقشة ، وهو أنه قال في متن الحديث : إنه على ضربين : قول ، وفعل ، وإقرار على قول أو فعل . وهذه ثلاثة أضرب لا ضربان ، فلعله جعل الإقرار نوعا من الفعل ، وجعلهما [ ص: 106 ] جميعا قسيم القول ، فصار تقديره : المتن ، إما قول أو فعل ، والفعل ينقسم إلى مباشرة ، وإقرار على مباشرة ، ولا يستقيم كلامه إلا بهذا .

                قال القاضي : وقد قيل : إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ضربين : أحدهما : ما طريقه الأقوال ، والآخر : الاستخراج .

                فأما الأقوال : فهي النص والعموم والظاهر ومفهوم الخطاب وفحواه والإجماع .

                وأما الاستخراج : فهو القياس . قال القاضي : والأول أصح ، لأنه أعم لوجود دليل الخطاب واستصحاب الحال فيه ، وذلك حجة عندنا .

                قال : ولم أذكر قول الصحابي إذا لم يخالفه غيره ، لأنه مختلف فيه عن أحمد رحمه الله ، وسأذكره في باب مفرد ، هذا معنى كلام القاضي .

                والضبط الذي اختاره وحكاه عن غيره كلاهما ناقص ضبط بالنسبة إلى ما ذكرناه عن الشيخ أبي إسحاق والإمام فخر الدين .

                ومنهم الشيخ الإمام الأوحد نجم الدين أبو محمد عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن الصيقل الحراني الحنبلي ، ضبط مقالات أصول الفقه ضبطا حسنا محققا ، فقال :

                أصول الفقه : هو العلم بأدلة الأحكام الشرعية ، ووجوه دلالتها إجمالا لا تفصيلا .

                وقد اشتمل هذا الحد على ذكر العلم والأدلة والأحكام الشرعية ووجوه دلالتها ، وهي أجزاء الحد المذكور ، فوجب أن يفرد لكل جزء منها مقالة ، فاشتمل كتابنا لهذا المعنى على أربع مقالات :

                المقالة الأولى : في العلم .

                المقالة الثانية : في الأحكام الشرعية . [ ص: 107 ]

                المقالة الثالثة : في الأدلة .

                المقالة الرابعة : في وجوه دلالتها .

                قال : وقدمنا النظر في العلم ، لأنه كالتمهيد لسائر المقالات ، لا يوقف عليها إلا بعد تحقيق القول في العلم . وقدمنا النظر في الأحكام على الأدلة ، لأن الدليل يراد للإيصال إلى معرفة الحكم ، والحكم يراد لذاته ، فكان تقديم ما يراد لذاته على ما يراد لغيره أولى . وقدمنا النظر في الأدلة على النظر في وجوه دلالتها ، لأنها حالة للدليل ، فكان النظر فيما له الحال مقدما على النظر في الحالة .

                قال : والنظر في هذه المقالات على وجه الاستقصاء متسرب إلى جميع مسائل الأصول .

                قلت : ذكر هذا في كتاب " النكت والإشارات في الأصول النظريات " وجدت منه إلى مسألة الواجب المخير .

                وهذا الضبط والتقسيم على إجمال فيه ، شبيه في التلخيص والاختصار بضبط الشيخ سيف الدين الآمدي رضي الله عنهم أجمعين .

                هذا الذي تهيأ لي الوقوف عليه من ضبط الناس لأصول الفقه ، وقد تكلم الناس فيه بما لم أقف عليه ، والكل موصل إلى المقصود ، لكن الكلام في أحسن الطرق إيصالا . وأخصر ما حكيناه من الطرق طريقة الآمدي ، وابن الصيقل . وأبينه وأبسطه طريقة الشيخ أبي إسحاق ، والإمام فخر الدين .



                ولي فيه طريقة متوسطة جامعة ، وإن كانت لا تخرج عن حقيقة ما قالوه ، لكن [ ص: 108 ] الكيفية متغايرة ، وهو أن المقصود من وضع الشريعة : امتثال المكلفين لأحكامها قولا وعملا .

                فالحكم الشرعي له مصدر ، وهو الشرع ، ومورد ، وهو المكلف الذي يتلقاه ليمتثله .

                ثم مورد الحكم - وهو المكلف - قد يكون مجتهدا يستقل بمعرفة الحكم عن دليله ، فلا حاجة له إلى واسطة ، وقد يكون قاصرا عن ذلك ، وحكمه التقليد للمجتهد ، فهو واسطة بين المقلد والشرع في إيصال الحكم ، فوجب لذلك النظر في الحكم ودليله ومورده .

                وهو ضربان : المجتهد ، والمقلد ، والنظر في الحكم يستلزم النظر في متعلقاته ، وهي الحاكم ، وهو الشارع ، والمحكوم عليه ، وهو المكلف من حيث هو مكلف ، لا من حيث هو مجتهد ولا مقلد ، والمحكوم فيه ، وهو الأفعال المتصفة بالحكم الشرعي من وجوب وندب وكراهة وحظر وصحة وفساد .

                والنظر في الدليل يستدعي النظر في أقسامه ، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والاستصلاح واستصحاب الحال ، وغير ذلك مما زاد فيه المجتهدون ونقصوا .

                والنظر في مورد الحكم يستدعي الكلام في الاجتهاد والتقليد والمجتهد والمقلد من حيث هما كذلك .

                فهذا ضبط جامع ، متوسط بين الإجمال المخل والبيان الممل ، وهي طريقة غريبة لا توجد إلا هاهنا .

                أما ترتيب كتابنا هذا المختصر ، فستراه عن قريب إن شاء الله تعالى .

                قوله : " سائلا من الله تعالى وفور النصيب " أي ألفت هذا الكتاب سائلا ، ودل على ذلك قوله : في تأليف كتاب . وفور النصيب : كماله ، أي أن يكمل [ ص: 109 ] نصيبي " من جميل الأجر وجزيل الثواب " . سأل الله تعالى أن يحسن له الأجر في كيفيته بكونه جميلا ، وفي كميته بكونه جزيلا ، أي : كثيرا . والأجر والثواب واحد ، لكن سهل تكراره اختلاف اللفظ .

                قوله : " ودعاء مستجاب ، وثناء مستطاب ، اللهم فهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " أي : وفور النصيب من دعاء مستجاب ، وثناء مستطاب ، أي : يدعو لي من ربما ينتفع بشيء من هذا الكتاب ، فيستجيب الله منه في . ولقد طالما نظرت في كتب الفضلاء ، فإذا رأيت فائدة مستغربة ، أو حل أمر مشكل ، أقرأ لمصنف الكتاب شيئا من القرآن ، وأجعل له ثوابه على مذهبنا في ذلك ، وإن كان المصنف ممن لا يعتقد وصوله ، فأنا أرجو من الناس مثل ذلك ، فإنه يقال : كما تكونوا يولى عليكم .

                أما قولي : " وثناء مستطاب " فلفظ أثبته عند اختصار الكتاب ، ونفسي تنفر منه ، إذ لم يخطر ببالي حينئذ إلا ثناء الناس ، وذلك محض الرياء المذموم ، والذي جرأني على ذلك التأسي بصاحب " المفصل " حيث قال في خطبته : أنشأت هذا الكتاب مناصحة لمقتنيه ، أرجو أن أجتني منها ثمرتي دعاء يستجاب وثناء يستطاب . [ ص: 110 ]

                وأما الآن - وقت الشرح - فإنه خطر لي تخريجها على وجه صحيح ، وهو طلب الثناء من الله سبحانه وتعالى ، فإنه سبحانه لكرمه قد يشكر من العبد ما هو دون هذا ، ويثني عليه به ، إذا علم نيته فيه ، والأعمال بالنيات . فإن صح لي هذا التأويل مع تراخي الزمان هذا التراخي ، وإلا فأنا أستغفر الله من هذه اللفظة ، ولا على من كتب هذا المختصر أن يسقطها .

                " اللهم فهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " . ختمت الخطبة بلفظ آية من القرآن تبركا .




                الخدمات العلمية