الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              231 (53) باب

                                                                                              كيف كان ابتداء الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهاؤه

                                                                                              [ 126 ] عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ; أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي : الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 1 - 5 ] . فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال : زملوني ، زملوني . فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، ثم قال لخديجة : أي خديجة ! ما لي ؟ وأخبرها الخبر ، فقال : لقد خشيت على نفسي ، فقالت له خديجة : كلا ! أبشر ، فوالله ! لا يخزيك الله أبدا . والله ! إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي - ، فقالت له خديجة : أي عم ! اسمع من ابن أخيك . قال ورقة بن نوفل : يا ابن أخي! ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رآه ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أومخرجي هم ؟ قال ورقة : نعم ! لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا .

                                                                                              وفي رواية : فوالله ! لا يحزنك الله أبدا.

                                                                                              رواه أحمد ( 6 \ 153 و 232 ) ، والبخاري ( 3 ) ، ومسلم ( 160 ) ، والترمذي ( 3636 ) .

                                                                                              [ ص: 374 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 374 ] (53) ومن باب كيف كان ابتداء الوحي وانتهاؤه

                                                                                              الوحي : إلقاء الشيء في سرعة ، ومنه : الوحا الوحا . ويقال على الإلهام ، ومنه قوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى [ القصص : 7 ] ; أي : ألهمناها ، وعلى التسخير ، ومنه قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل [ النحل : 68 ] ; أي : سخرها . وهو في عرف الشريعة : إعلام الله تعالى لأنبيائه بما شاء من أحكامه أو أخباره .

                                                                                              و " فلق الصبح " وفرقه : ضياؤه ; ومعناه : أنها جاءت واضحة بينة ، وهذا له - صلى الله عليه وسلم - مبدأ من مبادئ الوحي ومقدمة من مقدماته .

                                                                                              وقد أوحى الله تعالى إلى إبراهيم في النوم حيث قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك [ الصافات : 102 ] والأنبياء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم " . وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أول أمره يرى ضوءا ويسمع صوتا ، ويسلم عليه الحجر والشجر وتناديه بالنبوة ، وهذه أمور ابتدئ بها تدريجيا لما أراد الله به من الكرامة والنبوة ، واستلطافا له ; لئلا يفجأه صريح الوحي ، ويبغته الملك ، فلا تحتمل ذلك قوته البشرية .

                                                                                              [ ص: 375 ] و " حراء " بالمد : جبل بينه وبين مكة قدر ثلاثة أميال عن يسارك إذا ذهبت إلى منى . ويجوز فيه التذكير فيصرف على إرادة الموضع ، والتأنيث على إرادة البقعة . وضبطه الأصيلي : " حرا " بفتح الحاء والقصر . وقال الخطابي : أصحاب الحديث يخطئون فيه في ثلاثة مواضع ، يفتحون الحاء وهي مكسورة ، ويكسرون الراء وهي مفتوحة ، ويقصرون الألف وهي ممدودة .

                                                                                              واختلف في عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه ، هل كانت لأنه كان متعبدا بشريعة من قبله ؟ أم كانت لما جعل الله في نفسه وشرح به صدره من نور المعرفة ؟ ومن بغضه لما كان عليه قومه من عبادة الأوثان وسوء السيرة وقبح الأفعال ، فكان يفر منهم بغضا ويخلو بمعروفه أنسا ؟

                                                                                              ثم الذين قالوا : إنه كان متعبدا بشريعة ، فمنهم من نسبه إلى إبراهيم ، ومنهم من نسبه إلى موسى ، ومنهم من نسبه إلى عيسى . وكل هذه أقوال متعارضة لا دليل قاطع على صحة شيء منها . والأصح القول الأول ; لأنه لو كان متعبدا بشيء من تلك الشرائع ; لعلم انتماؤه لتلك الشريعة ، ومحافظته على أحكامها وأصولها وفروعها ، ولو علم شيء من ذلك ، لنقل ; إذ العادة تقتضي ذلك ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - ممن تتوفر الدواعي على نقل أحواله وتتبع أموره ، ولما لم يكن شيء من ذلك ، علم صحة القول الأول .

                                                                                              و (قوله : " حتى فجئه الحق ") أي : أتاه الوحي بغتة ، يقال : فجئ بكسر الجيم يفجأ ، وفجأ يفجأ بفتحها أيضا .

                                                                                              و (قوله : " ما أنا بقارئ ") " ما " نافية ، واسمها " أنا " ، وخبرها [ ص: 376 ] " بقارئ " ، والباء زائدة لمجرد النفي والتأكيد . وقال بعضهم : إنها هنا للاستفهام ، وهو خطأ ; لأن هذه الباء لا تزاد على الاستفهام ، وإنما تصلح للاستفهام رواية من رواها : " ما أقرأ " ، وتصلح أيضا للنفي .

                                                                                              و (قوله : " فغطني ") أي : غمني وعصرني ، ورواه بعضهم : فغتني ، وهما بمعنى واحد . وفي العين : غطه في الماء غرقه وغمسه ، ويقال : غته وغطه وخنقه بمعنى واحد .

                                                                                              و (قوله : " حتى بلغ مني الجهد ") أي : غاية المشقة ، بفتح الجيم . و " الجهد " - بالضم - : الطاقة ، قاله القتبي . وقال الشعبي : الجهد في القوت والجهد في العمل . وقيل هما بمعنى واحد ، قاله البصريون .

                                                                                              وهذا الغط من جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - تفزيع له وإيقاظ ، حتى يقبل بكليته ما يلقى إليه ، وتكراره ثلاثا مبالغة في هذا المعنى . وقال الخطابي : كان ذلك ليبلو صبره ويحسن أدبه فيرتاض لتحمل ما كلفه من أعباء الرسالة . وهذا الحديث نص في أول ما نزل من القرآن ، وهو أولى من حديث جابر إذ قال : إن أول ما أنزل من القرآن : يا أيها المدثر [ المدثر : 1 ] وسياق حديث جابر لا ينص على ذلك ، بل سكت عما ذكرته عائشة من نزول : اقرأ [ العلق : 1 ] في حراء ، وذكر أنه رجع إلى خديجة [ ص: 377 ] فدثروه ، فأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر وعائشة أخبرت بأول ما نزل عليه في حراء ، فكان قول عائشة أولى ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (قوله : " ترجف بوادره ") ترعد وتضطرب . والبوادر من الإنسان : اللحمة التي بين المنكب والعنق ، قاله أبو عبيد في " الغريب " . وقد روي في " الأم " : " يرجف فؤاده " ، أي : قلبه ، وهذا هو سبب طلبه أن يدثر ويزمل ; أي : يغطى ويلف ; لشدة ما لحقه من هول الأمر وشدة الضغط . والتزمل والتدثر واحد ، ويقال لكل ما يلقى على الثوب الذي يلي الجسد دثار . وأصل المزمل والمدثر : المتزمل والمتدثر ، أدغمت التاء فيما بعدها ، وقد جاء في أثر أنهما من أسمائه - عليه الصلاة والسلام - .

                                                                                              و (قوله : " لقد خشيت على نفسي ") اختلف في سبب هذه الخشية ، وفي زمانها ، فقيل : كانت عند رؤية التباشير وسمع الصوت قبل لقاء الملك ، وعند هذا يجوز أن يكون شك في حاله ولم يتحقق مآله ، وأما بعد مشافهة الملك وسماعه منه ما أخبره به وما قرأ عليه ، فلا يتصور في حقه شك في رسالته بوجه من [ ص: 378 ] الوجوه . وإن كانت الخشية حصلت منه في هذا الحال ، فيحتمل أن كانت من ضعفه عن القيام بأعباء النبوة والرسالة ، وأنه لا يقدر عليها . ويحتمل أن يكون خوفه من مباعدة قومه له ونفارهم عنه ، فيكذبونه ويؤذونه ويقتلونه ، وهذا في أول أمره قبل أن يعلم بمآل حاله ، وأن الله يعصمه من الناس ، وقول خديجة يشعر بهذا ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (قولها : " لا يخزيك الله أبدا ") قاله معمر بالحاء المهملة والنون ، وقال يونس وعقيل بالخاء المعجمة وبالياء المنقوطة باثنتين من أسفل ، ومعناه : لا يفضحك ولا يهينك .

                                                                                              و (قولها : " وتحمل الكل ") قال ابن النحاس : الكل الثقل ، من كل شيء في المؤنة والجسم . والكل أيضا اليتيم والمسافر ، وهو الذي أصابه الكلال وهو الإعياء .

                                                                                              و (قولها : " وتكسب المعدوم ") رويته بفتح التاء وضمها ، قال ابن النحاس : يقال : كسبت الرجل مالا ، وأكسبته مالا ، وأنشد :


                                                                                              فأكسبني مالا وأكسبته حمدا

                                                                                              وحكى أبو عبد الله بن القزاز أن كسب حرف نادر ، يقال : كسبت المال وكسبته غيري ، ولا يقال : أكسبت . وحكى الهروي : كسبت مالا وكسبته زيدا . وحكي عن ثعلب وابن الأعرابي : أكسبت زيدا مالا . ومعناه أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يكسب الناس ما لا يجدونه من معدومات الفوائد والفضائل ، وهذا [ ص: 379 ] أولى في وصفه من قول من قال : إن خديجة مدحته باكتساب المال الكثير الذي لا يجده غيره ولا يقدر عليه .

                                                                                              و ( قول ورقة : " هذا الناموس ") قال أبو عبيد في مصنفه : هو جبريل - عليه السلام - . قال الهروي : وسمي جبريل ناموسا ; لأن الله خصه بالوحي وعلم الغيب . وقال المطرز : قال ابن الأعرابي : لم يأت في الكلام فاعول ، لام الفعل سين إلا الناموس ، وهو صاحب سر الخير ، والجاسوس وهو صاحب سر الشر ، والجاروس الكثير الأكل ، والفاعوس الحية ، والبابوس الصبي الرضيع ، والراموس القبر ، والقاموس وسط البحر ، والقابوس الجميل الوجه ، والفاطوس دابة يتشاءم بها ، والفانوس النمام ، والجاموس ضرب من البقر . قال ابن دريد في الجمهرة : جاموس أعجمي وقد تكلمت به العرب ، وقال غيره : الحاسوس بالحاء غير معجمة من تحسسه بمعنى الجاسوس . وقال ابن دريد : الكابوس هو الذي يقع على الإنسان في نومه ، والناموس موضع الصائد ، وناموس الرجل صاحب سره ، وفي الحديث : " ناعوس البحر " ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                              و (قوله : " يا ليتني فيها جذعا ") فـ : " فيها " عائد على النبوة ، يريد مدتها ، تمنى [ ص: 380 ] نصرته في مدة نبوته . و " جذعا " كذا صحت الرواية فيه ، وعند ابن ماهان " جذع " مرفوعا على خبر " ليت " ، وكذا هو في البخاري . ونصبه من أحد ثلاثة أوجه :

                                                                                              أولها : أنه خبر " كان " مقدرة ; أي : يا ليتني أكون فيها جذعا ، وهذا على رأي الكوفيين كما قالوا في قوله تعالى : انتهوا خيرا لكم [ النساء : 171 ] ; أي يكن خيرا لكم ، ومذهب البصريين أن " خيرا " إنما انتصب بإضمار فعل دل عليه " انتهوا " ، والتقدير : انتهوا وافعلوا خيرا . وقال الفراء : هو نعت لمصدر محذوف ، تقديره : انتهوا انتهاء خيرا لكم .

                                                                                              وثانيها : أنه حال ، وخبر " ليت " في المجرور ، فيكون التقدير : ليتني كائن فيها ; أي : مدة النبوة في هذه الحال .

                                                                                              وثالثها : أن يكون " ليت " أعملت عمل " تمنيت " ، فنصبت اسمين ، كما قاله الكوفيون ، وأنشدوا عليه :


                                                                                              يا ليت أيام الصبا رواجعا

                                                                                              وهذا فيه نظر .

                                                                                              و (قوله : " أنصرك نصرا مؤزرا ") كذا رويناه بالزاي المفتوحة والراء المهملة ، [ ص: 381 ] وهو الصحيح ، ومعناه : قويا ، مأخوذ من الأزر وهو القوة ، قال الله تعالى : اشدد به أزري [ طه : 31 ] . وقوله في " الأم " : " فجثثت منه فرقا " ، يروى بالحاء غير معجمة وبالثاءين المثلثتين ، بمعنى : أسرعت خوفا منه . ويروى بالجيم المعجمة والثاءين ، وجئثت بالجيم وبالهمزة المكسورة مكان الثاء الأولى ، قال الهروي : جوث الرجل وجئث وجث ; أي : أفزع .




                                                                                              الخدمات العلمية