الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        تقديم

        بقلم: عمر عبيد حسنة

        الحمد لله الذي جعل عقيدة التوحيد محور التصور، ودليل التصرف والسلوك، ومرتكز الوحدة والانسجام بين أنساق الحياة المتعددة وميادين النشاط الإنساني والاستعمار في الأرض، والبناء الاجتماعي،

        فقال تعالى: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) (النساء:36 ) .

        والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي جسد القيم التوحيدية وترجمها إلى واقع في حياة الناس، حيث لم يعد الإيمان قضية فلسفية مجردة، أو مجرد علاقة بين الفرد وربه، بعيدا عن توجيه أنشطته وممارساته وعلاقاته اليومية، وإنما بين أن الإيمان والتوحيد إنما تحقق بالفعل والتصديق.. ربط الفكر بالفعل، والنية بالحركة والسلوك القويم، فنفى الإيمان عن الذي يبيت شبعان وجاره جائع وهو يعلم فقال صلى الله عليه وسلم : ( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع [ ص: 11 ] إلى جنبه وهو يعلم به ) (أخرجه البزار والطبراني وحسنه السيوطي ) ، واعتبر القرآن الإمساك وعدم الإنفاق سبيل الهلكة،

        فقال سبحانه وتعالى : ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (البقرة:195 ) .

        كما اعتبر الكنز وحجب المال عن وظيفته الاجتماعية مدعاة للعذاب الأليم.. وليس هـذا فحسب، بل رتب المسئولية التقصيرية على الإنسان الذي يعطل سبل الكسب وفرص العمل، مهما ادعى الصلاح، فجعل دخول النار في حبس هـرة عن طعامها. وهكذا نجد التكافل وعموم المسئولية عن (الآخر ) تجاوزت عالم الإنسان إلى عوالم المخلوقات الأخرى.

        وبعد:

        فهذا كتاب الأمة التاسع والسبعون: (عالم إسلامي بلا فقر) ، للأستاذ الدكتور رفعت السيد العوضي، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة بإعادة بناء مشروع النهوض، وإحياء عملية الاجتهاد والتجديد، وتقديم رؤية مستقبلية تأخذ في اعتبارها الإمكانات المتوفرة، والاستطاعات المتاحة، والظروف المحيطة.

        إن تقديم أية رؤية مستقبلية، أو التفكير بأي مشروع للنهوض، [ ص: 12 ] لا بد أن يحاول استيعاب الماضي وتجربته الحضارية ومواريثه الثقافية، وفهم الحاضر بكل مكوناته، وتحديد مواطن الخلل فيه، في ضوء معايير القيم المعصومة، وفهم مشكلاته، وتحليل تلك المشكلات، ودراسة أسبابها، والتحول من الاكتفاء بمعالجة الآثار وترميمها إلى معالجة الأسباب التي أنتجت وتنتج تلك المشكلات، واستشراف المستقبل، وذلك بالتعرف إلى مسارات الحاضر وفقه العواقب والتبصر بالمآلات، في ضوء مقدماتها، وفقه سنن المدافعة، أو سنن الله في الأنفس، ومحاولة تسخيرها، ومدافعة قدر بقدر، والتحول من استمرار الافتتان بسلاح القوة المادية ونتائجها القريبة، إلى الإيمان بقوة العلم والمعرفة وعواقبها البعيدة في الحياة والأحياء، ذلك أن الإيمان بقوة العلم والمعرفة يحقق التحول من الاقتصار على الحماس فقط إلى ترشيد الحماس الذي يقود إلى الاختصاص، ومن الاقتصار على الاكتفاء بمناخ الخطباء إلى التمرس والتأسيس لمجتمع الفقهاء والخبراء.

        إن الوصول إلى هـذه الرؤية لا يتأتى إلا بفك قيود التقليد الجماعي، وفتح الأبواب لعمليات المراجعة والتقويم والحوار لصور التدين القائمة، والامتداد بالاجتهاد الفكري إلى الآفاق كلها، وإزالة الالتباس بين نصوص الدين وقيمه المعصومة والمطلقة والمجردة عن حدود الزمان والمكان، وبين نماذج وأشكال التدين، وإعادة النظر في كيفيات [ ص: 13 ] التعامل مع تلك النصوص، وما يجري على تلك الكيفيات من السقوط والنهوض والزيادة والنقصان، وانتقال علل تدين الأمم السابقة، وما يعتريها من ظروف الزمان والمكان.

        ذلك أن التلبس والالتباس بين قيم الدين وصور وأشكال التدين حال دون الكثير من عمليات التصويب والتجديد والتقويم والمراجعة، وكرس التخلف والجمود، وأشاع جوا من الإرهاب الفكري والمطاردة لكل محاولات الإصلاح والخروج عن التقاليد والمألوف، وأقام على ساحة الفكر الإسلامي أنصابا وأزلاما وكهانات دينية تحاول أن تكتسب عصمتها من عصمة قيم الدين، وتدعي أن أي نقد أو تصويب أو مراجعة لاجتهادها وصور تدينها تعني الانتقاص من قيم الدين نفسه، أو على الأقل تتذرع بأن أي نقد وتقويم يبصر العدو بمواطن الخلل والضعف في الجسم الإسلامي فيتسلل منها ويتآمر على العمل للإسلام، وذلك بخلخلة الصفوف، وإنهاك الطاقات، دون أن تدري بأن العمل أو الصف الذي لا يصمد أمام التقويم والمراجعة بقيم الكتاب والسنة عمل لا يوثق به. لذلك امتدت العلل وصور من التدين المغشوش في جوانب كثيرة في حياة المسلمين على أكثر من صعيد.

        وقد لا نبتعد كثيرا عن الصواب إن قلنا: إن الكثير من المعاني المطروحة في حياة المسلمين بشكل عام وبعض العاملين للإسلام بشكل [ ص: 14 ] خاص، أصبحت نظرية بعيدة عن واقع التطبيق وصبغ الحياة، أو تشكيلها الثقافي والسلوكي، وإنـمـا هـي تجريدات ذهنية أو لفظية تنقل من لسان إلى لسان، لذلك أصبحت غير مـقنعة وغـير مؤثرة، لأنـه حسب المشاهد فواقع أهلها السلوكي المناقـض دليـل عـلى أنـهم لا يؤمنون بها تمام الإيمان، ولا يقتنعون بها كامل القناعة ولا حتى المستطاع منها، بل قد نجد بعضهم بات يتسول بها الجاه والمال والجمهور والمناصب.

        من هـنا نقول: إنه لا بد أن ندرك الحكمة و العبرة مما قص علينا القرآن من علل تدين الأمم السابقة التي أدت إلى سقوطها وانهيارها، حتى لا تتسلل إلى أمة الرسالة الخاتمة. لقد قص علينا أن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل، وأتبع ذلك مباشرة ببيان خـطورة الكـنز وحـجـب الـمـال عن التـداول،

        قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) (التوبة:34 ) ،

        ذلك أن الإصابة إذا وصلت إلى الدعاة والمربين والمؤسسات التي تحمل سمات وشعارات دينية، أصبحنا معها كالغاص بالماء.

        وليس هـذا على مستوى الأفراد فقط، بل ولعل بعض المؤسسات أيضا التي طرحت شعارات الإسلام والعمل له، أصبحت بصور تدينها [ ص: 15 ] وممارساتها سبة في جبين الإسلام، مشوهة لصورته، ذلك أن الكثير من المسلمين عند تعاملهم مع هـذه المؤسسات إنما ينحازون إلى الإسلام، وليس إلى بعض الأشخاص القائمين على أمرها، ويصبرون على الصور المشوهة من التدين التي تمارس، والتعامل معها خوفا عليها وأملا في تصويب مسارها.

        لذلك نقول: بأنه لا بد من معاودة إحياء المعاني الإسلامية بالعمل، وليس بمزيد من الخطب وسماكة الحناجر أو بزيادة مساحاتها وأوقاتها.. لا بد من تعاهدها، والتواصي بها، والتدريب عليها، وتقويم المسالك، ومراجعتها وقياسها بالقيم المعيارية في الكتاب والسنة، التي تنطلق منها وتتمحور حولها، ذلك أن الاستمرار في طرحها من فوق المنابر ومن على المنصات بعيدا عن تمثلها على أرض الواقع وتقديم النماذج المثيرة للاقتداء بها، وتحول أهلها ليكونوا هـم أدوات ووسائل التغيير، بات يشكل ذهنية خطيرة ذات ثقافة يحكمها التوارث الاجتماعي، لا تثير قلقا على الحال ولا خوفا على الصواب.

        ولعل الإشكالية الخطيرة هـي ابتكار أساليب للهروب من المسئولية، وذلك بأن نلقي بالتبعة على (الآخر ) ، واعتباره السبب الكامن وراء تدهورنا، دون أن ندري أننا ندين أنفسنا بأننا لسنا على مستوى عصرنا.. وإن تعذر ذلك وغاب فنخترع (آخر ) جاهزا وهو القدر، حيث ليس بالإمكان أفضل مما كان، وكأن الحياة التي تخصنا [ ص: 16 ] دون غيرنا تسير بشكل قسري عشوائي لا منطق فيها، ولا سنن وقوانين لها عند أهل التخلف والهروب من التبعة والعجز عن الفهم السليم، وكأن ما نؤمن به من القدر أصبح يشكل عائقا يحول دون نهوضنا، فما علينا إذا أردنا النهوض إلا الانعتاق من القدر (! ) وبذلك نقفز من فوق التاريخ والعلم والحضارة والمنطق والتجربة التاريخية (الإسلام ) ، التي تجسدت بحراسة الوحي وكانت أكثر إيمانا وتطبيقا للقدر ومدافعة قدر بقدر أحب إلى الله.

        ولعل الأدهى والأنكى أيضا هـو التفكير الهروبي، وذلك بالانسلاخ من المـجتمعات، وتشكيل أجسام منفصلة عنها باسم الإسلام أملا في تطبيق المعاني الإسلامية والالتزام بها (! ) ومن ثم تتحول الكثير من هـذه الأجسام إلى طائفيات وحزبيات منغلقة ومتعصبة، معجبة بفكرها، تتحجر عليه، وتقتات بالنيل من (الآخرين ) ورجم المجتمعات التي هـي في الأصل محل دعوتها وترقيتها وتهذيبها. لذلك نقول: بأنه بدل أن يكون أصحاب تلك الدعوات دليل المجتمع إلى فعل الخير تحولوا إلى حواجز وجدران تحول دون فعل الخير، وتنفر منه، إن لم يكن ذلك بقولها فبفعلها.. هـذا من جانب، ومن جانب آخر أصبحت أجساما منفصلة تسهل محاصرتها، واختراقها، وتشويه صورتها، وشل حركتها، والقضاء عليها، واتهامها بشتى أنواع الاتهام من أعدائها.

        لذلك لا بد من التفكير بالعودة إلى المجتمع -محل الدعوة – وحمل [ ص: 17 ] أهدافه، وتحمل هـمومه، ومشاركته في معاناته، والاندماج بمؤسساته، والتوسع في دوائر الخير فيه، وتقديم نماذج متميزة تثير الاقتداء في المواقع المتعددة، لدرجة يمكن معها القول: بأن المسلم اليوم مطالب بفك المحاصرة له، ومحاولات إخراجه من المجتمع وفصله عن جسم الأمة، والتفكير دائما بوسائل العودة إليها والالتصاق بها، وتقديم أنموذج التضحية والخلاص لمعاناتها.. وقد تقتضي بعض الظروف والمراحل أن تكون الدعوة بالأفعال والسلوك، والتحلى بالصبر والصمت في مناسبات كثيرة.

        فالتخلف وفلسفاته، والفتن واتساعها، لا تعالج بمزيد من القول واللجاج والجدال، والهروب والانسحاب، بل تهزم وتحاصر بالمبادرة إلى الفعل والعمل الصالح،

        والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح سبيل الخروج في مثل هـذه الحالات، عندما يكثر القوالون، ويقل الفعالون، ويسود الصخب واللجاج والشكوك وضياع القيم، فيقول: ( بادرو ا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا. ) (أخرجه مسلم ) .

        فالإسراع بمواجهة الفتن، بكل لجاجها، بالعمل الصالح هـو سبيل الخروج من المآزق، وهذا لا تطيقه إلا عزائم الرجال، وخاصة في مواجهات مراحل الفتن، ولا يستطيعه أصحاب التدين المغشوش الهش والأصوات العالية. [ ص: 18 ]

        ولعل من الأمور التي تحتاج إلى مزيد من النظر والتأكيد دائما، أن المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، هـي في حقيقتها مشكلات ثقافية، أو هـي مشكلة الثقافة، ذلك أن الأبعاد السياسية والاقتصادية والتنموية لهذه المشكلات لا تخرج عن كونها تجليات للمشكلة الثقافية، أو مشكلة القيم والأفكار والمفاهيم بشكل أخص، وأن أية محاولة للعلاج ووضع الخطـط للخروج من المشكلات لا تدرك حقيقة تلك المشكلات وأسبابها الحقيقية فإنما تحاول أن تعالج العرض وتتعامل مع الآثار دون التوجه للإحاطة بالأعراض ومعرفة أسبابها، التي تتركز جميعها في المشكلة الثقافية ابتداء.

        ولا نعني بالمشكلة الثقافية هـنا الفقر في القيم والأفكار والمفاهيم والميراث الثقافي والحضاري، وإنما نعني بها فساد منهج التعامل معها، فقد تكون الأمة غنية بمخزونها الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري وتجربتها الحضارية التي جسدت هـذه القيم والأفكار، ودللت على صوابها، لكنها تفتقر إلى مفاتيحه وإعادة الاجتهاد في تنزيل هـذه القيم على واقع الناس.

        لذلك نعاود القول : إن النظر إلى المشكلة وقطعها عن سياقها الثقافي الشامل، ومحاولة علاجها بعيدا عن معرفة الوباء الثقافي الذي أصاب المجتمع فتولد عنه مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية، والتوهم أنه بالإمكان تأمين النمو الاقتصادي متجاورا مع الظلم [ ص: 19 ] الاجتماعي أو الاستبداد السياسي، أو تأمين السلم الاجتماعي مع استمرار الاستبداد السياسي، أو معالجة مشكلة الفقر كحالة تخلف، ومحاولة تحقيق النمو بعيدا عن معالجة الجهل والأمية والعدل الاجتماعي والشورى السياسية... نخشى أن نقول: إنها بعثرة للجهود، وإضاعة للأوقات، وتبديد للأموال والطاقات، والضرب في الحديد البارد، أو على أحسن الأحوال تحرك في غير المواقع المجدية.

        فلا يمكن أن يتجاور مع الاستبداد السياسي وما ينتج عنه من الاستئثار بالثروات ومطاردة الطاقات، وتهجير الخبرات والعقول والسواعد، ومصادرة الأموال، وطرد رؤوس الأموال، والقضاء على روح المبادرة والإنتاج، ونشر الخوف والقلق، وما إلى ذلك من الأبعاد اللانهائية للاستبداد، لا يمكن أن يترافق مع ذلك رفه اقتصادي أو إنتاج مأمول، أو تصنيع مقدور، أو توظيف للأموال، أو اغتنام للإمكانات، ومن ثم علاج لمشكلة الفقر والتخلف.

        كما لا يمكن أن يتجاور مع الظلم الاجتماعي والاستئثار بالمال والثروة واستغلال الفقراء وإهدار كرامتهم، وأكل عرقهم وجهدهم، ووجود خلل اجتماعي وطبقات: طبقة تأكل ولا تعمل، وطبقة تعمل ولا تأكل، لا يـمكن أن يتجاور مع ذلك سلام وأمان اجتماعي واطمئنان مستقبلي. [ ص: 20 ]

        لذلك نقول: إن مشكلة التنمية للأمة والمجتمع هـي مشكلة مركبة وشاملة لجوانب متعددة، سياسية واجتماعية واقتصادية، إذ لا يمكن أن يتصور نمو في جانب وتخلف في جانب آخر.. لا يمكن أن يكون نهوض في جانب وسقوط في آن، لأن عملية التنمية عملية شاملة متوازنة، لذلك فأي محاولة للتعامل مع الأزمة بعيدا عن السياق الاجتماعي العام وضبط النسب والأبعاد لسائر المشكلات في تخطيط سليم، فسوف تبوء بالفشل، وقد أسلفنا أن سائر المشكلات هـي في الحقيقة تـجليات للأزمـة الثقـافية والتربوية، فجذور الأزمة الأم هـي الأزمة الثقافية.

        صحيح أنه يوجد في العالم الإسلامي من حيث البعد الاقتصادي والتنموي والتكاملي أراض كثيرة صالحة للزراعة، كما توجد مناطق مناخية متنوعة، وتوجد خامات هـائلة مركوزة في باطن الأرض، وتوجد ثروات وأنهار ومعادن وكتلة سكانية فيها من الأدمغة والسواعد ما يمكن أن يكفي العالم، لكننا نجد أن العالم الإسلامي، الذي يحرك بأمواله وثرواته وبتروله شرايين الحضارة المعاصرة، جثة هـامدة لا تتحرك.

        فأمواله مهاجرة أو مهربة ومودعة في مصارف (الآخر ) ، وثرواته ليس له عليها حتى مجرد الإشراف أو التحكم بتغيير السوق أو اختيار المشتري، وقد لا يملك أغنياؤه مجرد حق نقل أرصدتهم من مصرف إلى آخر، إضافة إلى أن بعض زعماء دول المسلمين الفقيرة جدا هـم على [ ص: 21 ] رأس قائمة الأسماء الغنية على مستوى عالمي، وكل ذلك على حساب نهب ثروات شعوبهم.. وعلى الرغم مما نسمع ونبصر من العنتريات والبطولات التي ترسـم فـي الفراغ، نـجد أن الأرصدة في معظمها مودعة عند من يتهمـونه بعداوتهم. أما مشكلة الفـساد المـالي، فـحـدث عنها ولا حرج.

        من هـنا نقول: بأن الإسلام لم يتعامل مع مشكلة الفقر كمشكلة مادية مقطوعة عن موقعها من بناء الرؤية الشاملة المتماسكة، فهي مطروحة على مستوى العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك ووسائل الكسب ومصادره.. ولا يكفي هـنا أن نقول: إن الإسلام يمتلك الحل، أو يمتلك المنهج لمعالجة الفقر، كشعار، بل لا بد من طرح السؤال الكبير ثقافيا: لماذا لم يعالج المسلمون مشكلة الفقر؟ وكيف تعالج؟ وذلك بوضع استراتيجية شاملة تعالج الأسباب وتبصر بكيفية التعامل مع القيم الإسلامية الضابطة لمسيرة الحياة، ذلك أن الاستمرار بالقول: بأن الإسلام يمتلك العلاج دون بيان أسباب المشكلة وآلية وكيفية العلاج، يخشى أن ينعكس ذلك على الإسلام نفسه، وليس على عجز الناس عن التعامل مع قيمه، والاكتفاء برفع الشعارات والحماسات والخطب.. فالإسلام موجود بقرآنه وسنته وتجربته التاريخية، ومع ذلك فالفقر موجود.. لماذا.. وكيف ؟

        وعندما نقول: إن المشكلة ثقافية عقدية تربوية، وإن تلك [ ص: 22 ] الأعراض السياسـية والاقتصادية والاجتماعيـة أعراض وتـجليـات لها، لا نعدو الحقيقة، لأن الاقـتصار عـلى التعامل مع تلك التجليات لم يغير شيئا.

        والأمـر فـي مـعالـجة مشكلة الفقر، في الرؤية الإسلامية، لم يقتصر -كما أسلفنا- على البناء التربوي والثقافي، وإنما امتد لوضع التشريعات الملزمة للعمل والتكامل وإنهاء الفقر.

        لقد وضعت قيم الإسلام أسسا نفسية وفكرية لعلاج أسباب المشكلة، كما وضعت أطرا وحلولا عملية لمعالجة آثارها لا تغني واحدة عن أخرى، وتبقى الثقافة هـي المؤشر والمؤطر والدافع والمنتج.

        ولعل من الأسس النفسية المهمة في الرؤية الإسلامية والمنهج الإسلامي، إقامة العلاقات المادية والمعنوية على أساس الأخوة،

        لقوله تعالى ( :إنما المؤمنون إخوة ) (الحجرات:10 ) ،

        وربط الإيمان باستشعار حقوق الأخ، كما رتب على رابطة الأخوة الحب، فلا يؤمن الإنسان المسلم وينجو بإيمانه مالم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويعيش معه كالبنيان يشد بعضه بعضا، وجعل العدل وحفظ الحقوق، حتى خارج الدائرة الإسـلامية، من قـيم الديـن الأسـاسيـة، بـل ندب إلى عـدم الاقـتصار عـلى العدل وهو إحقاق الحق أو إعطاء كل إنسان حقه بدون ظلم، وإنما الارتقاء إلى الإحسان وهو التنازل له عن بعض [ ص: 23 ] حقك أيضا.

        ومن الأسس النفسية: الإيثار، وهو عكس الأثرة والأنانية.. والإيثار تفضيل (الغير ) على النفس، وإشاعة جو العفو والرحمة وهي الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة، والتربية على تنمية روح الاحتساب في الفعل.

        ولم يقتصر الإسلام على بناء الأسس النفسية الثقافية للتكامل والتكافل الاجتماعي، وإنما وضع أسسا عملية أيضا لترميم الحاجات، كفريضة الزكاة -وهي أحد أركان الإسلام- بالنسبة للأصناف الثمانية، ونظام النفقات الواجبة، وتشريعات الميراث بالنسبة للتكافل في إطار الأسرة، والصدقات، والنذور، والكفارات، كما ندب أتباعه إلى الوقف، لأهمية دوره في التنمية، وترميم الفقر والفعل الاجتماعي بشكل عام، وليس ذلك فقط وإنما يمتد الأمر إلى تحريم الادخار، واعتبار ذلك من الكنز المحرم، أثناء الأزمات والمجاعات والحروب وحالات الطوارئ والجوع، ( فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الأشعريين:..هم مني وأنا منهم ) (أخرجه البخاري )

        لأنهم إذا أرملوا -أي فني زادهم- جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية.

        وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه يروي لنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : [ ص: 24 ]

        ( من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لازاد له ) ، يقول أبو سعيد رضي الله عنه : فذكر صلى الله عليه وسلم من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل (أخرجه مسلم ) .

        لذلك نقول: إن العملية متكاملة متراكبة، وإنه لا يمكن أن يتحقق النمو في جانب ويتجاور مع التخلف في جانب آخر، وأن المشكلة ليست فقرا في الموارد، وإنما في الثقافة المغشوشة وتجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى لنرى أن بناء الأمة المسلمة وتشكيلها أخذ بعدا ومحورا ثقافيا.

        فجغرافية الأمة المسلمة جغرافيا ثقافية عقدية وحدود تشكيلها حدود ثقافية، وعليه فإن المواطن في أمة الإسلام مواطن عالمي، أينما كان، يرتبط بالعقيدة والثقافة الإسلامية، علما وعملا، فكرا وفعلا، عقيدة وعبادة.

        وبذلك يرتقي الإسلام بإنسانية الإنسان، ويجعل القيمة الأساس لاختياره، والولاء الأول لعقيدته، وليس لسائر الفوارق البشرية من لون أو أرض أو جنس، وإن كانت تلك أمور واقعية يشارك فيها الإنسان المخلوقات الأخرى، لكنه يتميز عليها بالإرادة والاختيار.

        ولعلنا ندرك بهذه الرؤية والفلسفة المبكرة لبناء الأمة إنسانية [ ص: 25 ] الدعوة وعالمية الرسالة وبعض جوانب الخلود في هـذا الدين، الذي هـو الدين الخاتم، والذي يتعامل مع عالم مستقبلي سوف تنهار فيه الحدود والسدود المادية، ويتحول التدافع إلى ساحة الثقافات، وتتشكل التكتلات الدولية بدافع من الرؤية المشتركة لجوانب الحياة، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، إلخ.

        وإذا اقتضت الظروف والجغرافيا السياسية أن تتشكل دار للإسلام، حيث تمثل الأرض التي يلتزم أهلها بشريعة الإسلام، فإن الأمة المسلمة تبقى ذات بعد آخر، حيث المؤمنون إخوة، أينما كانوا، فالمؤمن في أي أرض فهو واحد من أمة الإسلام. حتى أن المعيار المطلوب لانتسابه لأمة الإسلام، أن يكون مؤمنا، بضرب النظر عن لونه وأرضه وجنسه وزمن إيمانه، فمجرد أن يؤمن يصبح عضوا في أمة الإسلام، ومواطنا عالميا في دولة الإسلام.

        ولعلنا نقول: إن هـذه الفلسفة وهذه الرؤية المبكرة، كان يمكن أن تعتبر في الماضي من الأحلام أو أحلام اليقظه غير الواقعية، حتى أصبحت اليوم مسعى عالميا، ومطلبا عالميا، وفعلا عالميا أيضا.

        وهذا المفهوم الثقافي للأمة، وعامل تشكيلها، الذي يتأسس على الإرادة والاختيار المفتوح للناس جميعا، ينأى بالأمة المسلمة عن التعصب والطائفية والإقليمية والتحزب والتشرنق، ويجعل الأمة أمة منفتحة [ ص: 26 ] مشـرعة الأبواب لدخول كل مـن يقـتنع بعـقيدتها وثقـافـتها عـن طواعية واختيار.

        والحضارة المعاصرة الغالبة اليوم، على الرغم من جبروتها المادي والتقني وغلبتها العسكرية، باتت غير مقتنعة بالغلبة المادية العسكرية، وبدأت تتطلع إلى تسييد ثقافتها، وعولمة مفاهيمها، ومحاولة احتواء واستيعاب الحضارات والثقافات لصالح ثقافتها، واعتبار الصراع الحقيقي صراعا ثقافيا، فهو الحقيقة التي تتجلى بصور اقتصادية وسياسية وعسكرية واجتماعية.

        ولعل من اللافت أن الأمة المسلمة، ومنذ وقت مبكر، تشكلت من خلال كتاب، و تميزت عن أمم الحجارة والتضاريس الجغرافية بالفكر والثقافة، حيث كانت الرابطة الأعم في ذلك الوقت هـي رابطة القبيلة.. والقبيلة عمليا هـي العائلة الكبيرة، أو الأسرة الممتدة القائمة على روابط الدم والعادات والتقاليد والمساكن المتجاورة على أرض واحدة.. لقد تشكلت الأمة من خلال الرؤية الثقافية.

        وبالإمكان القول: إن الأساس الذي شكل الأمة المسلمة هـو القرآن، والقرآن وحده هـو المؤهل لإعادة التشكيل.

        لقد أردت بهذه النظرة السريعة تحديد بعض المفهومات والمعايير عن تشكيل الأمة، والتأكيد على المحور الثقافي الذي قامت وتقوم [ ص: 27 ] عليه، وأن هـذا العامل إذا بهت أو غاب أو ألغي تتحول الأمم إلى قطعان فاقدة لهدفها.. تتحرك بروابط القطيع، وتساق بسوط راعي القطيع، الذي يحول دون خيارها.

        حتى أننا لنقول: إن العامل الثقافي أو المحور الثقافي إذا غاب أو غيب انعكس ذلك بقراءات مغلوطة لسائر الروابط، التي قد تتوفر جميعا، ومع ذلك لا تقوم للأمة أية قائمة، كما هـو حال الكثير منا اليوم.

        إن محاولات الإحياء التي قامت تدعي إدراك هـذا الخلل، لم تستطع مع الأسف أن تقدم من نفسها وفعلها ما يخلص الأمة، بل لعلنا نقول: أساءت التعامل مع البعد الثقافي، حتى أنها لم تستطع الاحتفاظ بإسلامها، لأن منطلقها كان مقاربة مع (الآخر ) ، واستلابا، وارتهانا لثقافته وحضارته ورؤيته الثقافية التي انعكست على الاقتصاد والاجتماع والسلوك.. إلخ.

        والأمة بالمفهوم الإسلامي ليست ظاهرة اجتماعية موقوتة بزمان ومكان وأشخاص، وإنما هـي أمة ممتدة من تاريخ الخلق وحتى ينشئ الله النشأة الآخرة. فالأنبياء وأتباعهم المؤمنون بعقيدة التوحيد، الملتزمون بشريعة اللـه، هـم أمـة واحـدة، وإن تطورت الأوعية الثقافية والأوامـر التشـريعـية مع تتابع النبوة..

        إن قوله تعالى ( : إن هـذه أمتكم أمة واحدة ) (المؤمنون:52 ) ،

        لا يقتصر على النبوة الآخرة، وإن كان يخصها، وإنما [ ص: 28 ] يشمل النبوة جميعها.. من تلقي آدم كلمات وتعليمه الأسماء، إلى طلب القراءة في النبوة الخاتمة. وعلى ذلك، فنرى هـنا من الأهمية بمكان وضوح مفهوم الأمة في الرؤية الإسلامية، وتكاملها، ودورها الرسالي الممتد من بدء الخلق إلى النشأة الآخرة، وتكامل حلقاتها، وتكافلها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.

        وتبقى قضية طالما أكدنا عليها ولا تزال بنظرنا بحاجة إلى مزيد من التأكيد، وهي أن الإسلام إنما جاء بأهداف ومبادئ كبرى وقيم ضابطة لحركة الحياة في المسارات والأنشطة المختلفة.. جاء بمبادئ وقيم، أما البرامج والمناهج فهي متروكة لإبداعات العقل وتجاربه، في ضوء الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة.. وتبقى القيم هـي موازين ومعايير البرامج ومحدداتها.

        والكتاب الذي نقدمه، يعتبر إحدى محاولات المؤلف -جزاه الله خيرا- وإسهاماته المستمرة في تشكيل رؤية اقتصادية مستمدة من القيم الإسلامية، تساهم بانتشال العالم الإسلامي مما يعاني، وتخليصه من حالة العطالة والعجز المادي والخزي الثقافي وهو يمتلك تلك الطاقات المادية المتنوعة، والقوى الروحية الثقافية المحركة، التي تؤهله للتحقق بالعالمية الثقافية والاقتصادية لريادة العالم، وقيادته إلى العدل والسلم الاجتماعي، وعلاجه من داء الأثرة، حيث يتاجر بعضهم بعرق الفقراء، ويكرس فقرهم، وحيث تقدم الوعود الكاذبة لهم ودعوتهم [ ص: 29 ] للتضحية بالحاضر في سبيل المستقبل، فانتهى الأمر إلى خسران الحاضر والمستقبل معا، إضافة إلى غلبة الأثرة وسوء التوزيع حيث تتركز الثروة (90% من الموارد ) في يد أقل من 10% من سكان العالم، بينما يعيش 90% من سكانه على أقل من 10% من موارده.

        إننا لنرى أن العولمة -الشعار المطروح اليوم- بكل أبعادها الاقتصادية والسياسية، بصورتها المطروحة، أصبحت سبيلا لعولمة الفقر، وإتاحة الفرصة للشركات والمؤسسات الكبرى في الاقتصاد والسياسة والإعلام والثقافة بالتسلط على العالم واستغلال خيراته.. إنها بصورتها الحالية تمثل العودة إلى شريعة الغاب، حيث يفترس القوي الضعيف.

        والباحث يحاول -ما أمكن- أن يقرأ موارد وخامات العالم الإسلامي، التي تؤهله للدور المطلوب على مستوى الذات أولا: (عالم إسلامي بلا فقر ) ، وعلى المستوى الريادي الإنساني العالمي ثانيا.

        كما يجتهد في وضع بعض الملامح لمنهج المعالجة، تحقيقا لتكامل العالم الإسلامي اقتصاديا، وصولا للاكتفاء الذاتي، ذلك أن الفقر كان وما يزال يعتبر الفجوة أو الثغر الذي يتسلل منه (الآخر ) بثقافته، وأفكاره، وأشيائه الصناعية.

        ويبقى هـذا الجهد المقدر اجتهادا بشريا، يجري عليه الخطأ والنقصان، ولا يعني بالضرورة أنه القيم الإسلامية المعصومة.

        والحمد لله رب العالمين [ ص: 30 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية