الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر تعذيب المستضعفين من المسلمين

وهم الذين سبقوا إلى الإسلام ، ولا عشائر لهم تمنعهم ، ولا قوة لهم يمنعون بها ، فأما من كانت له عشيرة تمنعه فلم يصل الكفار إليه ، فلما رأوا امتناع من له عشيرة ، وثبت كل قبيلة على من فيها من مستضعفي المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ورمضاء مكة والنار ليفتنوهم عن دينهم ، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومنهم من يتصلب في دينه ويعصمه الله منهم .

فمنهم : بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر ، وكان أبوه من سبي الحبشة ، وأمه حمامة سبية أيضا ، وهو من مولدي السراة ، وكنيته أبو عبد الله ، فصار بلال لأمية بن خلف الجمحي ، فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ، ويقول : لا تزال هكذا حتى تموت ، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى ، فكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب وهو يقول : أحد أحد . فيقول : أحد أحد والله يا بلال . ثم يقول لأمية : أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا . فرآه أبو بكر يعذب فقال لأمية بن خلف الجمحي : ألا تتقي الله في [ ص: 664 ] هذا المسكين ؟ فقال : أنت أفسدته فأبعدته . فقال : عندي غلام على دينك أسود أجلد من هذا أعطيكه به . قال : قبلت . فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالا فأعتقه ، فهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

ومنهم : عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسي ، وهو بطن من مراد - وعنس هذا بالنون - أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديما ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم بن أبي الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلا ، أسلم هو وصهيب في يوم واحد ، وكان ياسر حليفا لبني مخزوم ، فكانوا يخرجون عمارا وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحر الرمضاء ، فمر بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة " . فمات ياسر في العذاب ، وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل ، فطعنها في قبلها بحربة في يديه فماتت ، وهي أول شهيد في الإسلام ، وشددوا العذاب على عمار ، بالحر تارة ، وبوضع الصخر على صدره أخرى ، وبالتغريق أخرى فقالوا : لا نتركك حتى تسب محمدا وتقول في اللات والعزى خيرا ، ففعل ، فتركوه فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي . فقال : ما وراءك ؟ قال : شر يا رسول الله ، كان الأمر كذا وكذا . قال فكيف تجد قلبك ؟ قال : أجده مطمئنا بالإيمان . فقال : يا عمار فعد ، فأنزل الله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فشهد المشاهد كلها مع رسول الله [ ص: 665 ] وقتل بصفين مع علي وقد جاوز التسعين ، قيل بثلاث ، وقيل بأربع سنين .

ومنهم : خباب بن الأرت ، كان أبوه سواديا من كسكر ، فسباه قوم من ربيعة ، وحملوه إلى مكة فباعوه من سباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني زهرة ، وسباع هو الذي بارزه حمزة يوم أحد ، وخباب تميمي ، وكان إسلامه قديما ، قيل : سادس ستة قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم ، فأخذه الكفار وعذبوه عذابا شديدا ، فكانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرضف ، وهي الحجارة المحماة بالنار ، ولووا رأسه ، فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوا منه ، وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل الكوفة ، ومات سنة ست وثلاثين .

ومنهم : صهيب بن سنان الرومي ، ولم يكن روميا ، وإنما نسب إليهم لأنهم سبوه وباعوه ، وقيل : لأنه كان أحمر اللون ، وهو من النمر بن قاسط ، كناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا يحيى قبل أن يولد له ، وكان ممن يعذب في الله ، فعذب عذابا شديدا . ولما أراد الهجرة منعته قريش ، فافتدى نفسه منهم بماله أجمع ، وجعله عمر بن الخطاب عند موته يصلي بالناس إلى أن يستخلف بعض أهل الشورى ، وتوفي بالمدينة في شوال من سنة ثمان وثلاثين وعمره سبعون سنة .

وأما عامر بن فهيرة ، فهو مولى الطفيل بن عبد الله الأزدي ، وكان الطفيل أخا عائشة [ ص: 666 ] لأمها أم رومان ، أسلم قديما قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم ، وكان من المستضعفين يعذب في الله ، فلم يرجع عن دينه ، واشتراه أبو بكر وأعتقه ، فكان يرعى غنما له ، وكان يروح بغنم أبي بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى أبي بكر لما كانا في الغار ، وهاجر معهما إلى المدينة يخدمهما ، وشهد بدرا وأحدا ، واستشهد يوم بئر معونة وله أربعون سنة . ولما طعن قال : فزت ورب الكعبة ! ولم توجد جثته لتدفن مع القتلى ، فقيل : إن الملائكة دفنته .

ومنهم : أبو فكيهة ، واسمه أفلح ، وقيل يسار ، وكان عبدا لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي ، أسلم مع بلال ، فأخذه أمية بن خلف وربط في رجله حبلا ، وأمر به فجر ثم ألقاه في الرمضاء ، ومر به جعل فقال له أمية : أليس هذا ربك ؟ فقال : الله ربي وربك ورب هذا ، فخنقه خنقا شديدا ، ومعه أخوه أبي بن خلف يقول : زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره ، ولم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات ، ثم أفاق ، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه .

وقيل : إن بني عبد الدار كانوا يعذبونه ، وإنما كان مولى لهم ، وكانوا يضعون الصخرة على صدره حتى دلع لسانه فلم يرجع عن دينه ، وهاجر ومات قبل بدر .

ومنهم : لبينة جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي بن كعب ، أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب ، وكان عمر يعذبها حتى تفتن ثم يدعها ، ويقول : إني لم أدعك إلا سآمة ، فتقول : كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم ، فاشتراها أبو بكر فأعتقها .

ومنهم : زنيرة ، كانت لبني عدي ، وكان عمر يعذبها ، وقيل : كانت لبني مخزوم ، وكان أبو جهل يعذبها حتى عميت ، فقال لها : إن اللات والعزى فعلا بك . فقالت : وما [ ص: 667 ] يدري اللات والعزى من يعبدهما ؟ ولكن هذا أمر من السماء وربي قادر على رد بصري ، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها ، فقالت قريش : هذا سحر محمد ، فاشتراها أبو بكر فأعتقها .

( زنيرة بكسر الزاي ، وتشديد النون ، وتسكين الياء المثناة من تحتها ، وفتح الراء ) .

ومنهم : النهدية ، مولاة لبني نهد ، فصارت لامرأة من بني عبد الدار فأسلمت ، وكانت تعذبها وتقول : والله لا أقلعت عنك أو يبتاعك بعض أصحاب محمد ، فابتاعها أبو بكر فأعتقها .

ومنهم : أم عبيس ، بالباء الموحدة ، وقيل : عنيس ، بالنون ، وهي أمة لبني زهرة ، فكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها ، فابتاعها أبو بكر فأعتقها .

وكان أبو جهل يأتي الرجل الشريف ويقول له : أتترك دينك ودين أبيك وهو خير منك ! ويقبح رأيه وفعله ويسفه حلمه ويضع شرفه ، وإن كان تاجرا يقول : ستكسد تجارتك ويهلك مالك ، وإن كان ضعيفا أغرى به حتى يعذب .

التالي السابق


الخدمات العلمية