الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : دفع ما اعترض به الخصم عن حديث " القلتان "

                                                                                                                                            والدلالة عليهما رواية الشافعي رضي الله عنه عن الوليد بن كثير المخزومي عن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا " فدل تحديد القلتين على أن القدر معتبر ، وأن لا اعتبار بالاختلاط فيما زاد ، ولا اعتبار بعدم المعتبر فيما نقص ، اعترضوا على هذا الحديث بسبعة أسئلة ثلاثة في إسناده وأربعة في متنه .

                                                                                                                                            أحدها : إن قالوا إن الشافعي رواه عن مجهول : لأنه قال أخبرنا الثقة ، وقد يكون ثقة عنده ومجروحا عند غيره ، وجهالة الراوي تمنع من العمل بروايته ، وعن هذا جوابان لأصحابنا :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه معروف وإن كني عن اسمه فقال أبو يعقوب البويطي هو حماد بن أسامة الكوفي .

                                                                                                                                            وقال أبو ثور وهو عبد الله بن الحارث المخزومي ، وحكي عن الربيع بن سليمان أنه قال : إذا قال الشافعي أخبرنا الثقة عن معمر فهو ابن علية ، وإذا قال أخبرنا الثقة عن الأوزاعي فهو ابن أبي سلمة .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن الشافعي وضع هذا التصنيف بمصر ، وكانت كتبه بمكة ، فكان يورد الحديث ويعلم أنه قد حدثه به أحد الثقات عن رجل بعينه مثل أن يحدثه عن الزهري مالك تارة ، وسفيان تارة ، فإذا تيقن رواية الزهري ، وشك في الذي حدثه عنه هل هو مالك أو سفيان ، قال أخبرنا الثقة عن الزهري ، وهذا جائز .

                                                                                                                                            [ ص: 328 ] والسؤال الثاني : إن قالوا في إسناده قدح من وجه ثان وهو الوليد بن كثير ، رواه تارة عن محمد بن عباد بن جعفر ، وتارة عن محمد بن جعفر بن الزبير ، وهذا اضطراب يقدح في الحديث ، وعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما حكاه أبو الحسن الدارقطني أن الوليد بن كثير سمع هذا الحديث من الرجلين جميعا ، فجاز أن يرويه عن أيهما شاء .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان ذلك شكا في أحدهما ، وهما ثقتان لم يمنع من صحة الحديث : لأنه عن أيهما أسنده لزمه الأخذ به .

                                                                                                                                            والسؤال الثالث : إن قالوا إن في إسناده قدحا من وجه ثالث ، وهو أنه روى تارة عن عبد الله بن عمر ، وتارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر .

                                                                                                                                            والجواب عنه أن الواقدي سئل عن ذلك فقال عبد الله وعبيد الله أخوان ابنا عبد الله بن عمر وهما ثقتان ، وقد رويا جميعا هذا الحديث ، ولقيهما محمد بن علي بن جعفر ، وقد رواه محمد بن إسحاق عن الزهري عن سالم عن أبيه أيضا .

                                                                                                                                            والسؤال الرابع : في متنه : إن قالوا والقلة اسم مشترك يتناول أشياء متغايرة فمنها الجرة التي تلقها اليد ، ومنها قلة الجبل ، ومنها قامة الرجل ، فلم يجز أن يصار إليه مع اشتراكه ، وعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : منع اشتراكه في المسميات يفيد تحديد الماء في النجاسات وهم لا يعتبرون به .

                                                                                                                                            والثاني : أنه وإن كان مشتركا فلا يجوز أن يتناول إلا الأواني لأمرين أحدهما أنها أوعية الماء التي يقدر بها .

                                                                                                                                            والثاني : أنها أشهر في الحكايات وأكثر عرفا في الاستعمال قال حميد بن معمر : فظللنا بنعمة واتكأنا 206 وشربنا الحلال من قلله وقال الأخطل : [ ص: 329 ]

                                                                                                                                            يمشون حول مكدم قد كدحت     متنيه حمل حناتم وقلال

                                                                                                                                            يعني : ملخ الجلد من الكد .

                                                                                                                                            والسؤال الخامس : أن اسم القلة ، وإن كان متناولا للأواني ، فقد يتناول صغارها وكبارها فيتناول الكوز : لأنه يقل بالأصابع ، ويتناول الجرة : لأنها تقل باليد ، ويتناول الحب : لأنه يقل بالكتف ، وما كان مختلف القدر ، لم يجز أن يجعل حدا وعن هذا جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما جعله مقدارا بعد ومنها دل على أنه أشار إلى أكثرها : لأنه لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين ، وهو مقدر على تقديره بواحدة كبيرة .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أنه قد ميز ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : " بقلال هجر " ورواه محمد بن إسحاق عن المغيرة بن سقلاب .

                                                                                                                                            والسؤال السادس : قالوا : فهو وإن يتناول قلالا متميزة من قلال هجر ، فقد جاء الحديث مختلفا في العدد فروي " إذا كان الماء قلتين " وروي " إذا كان ثلاثا " وروي " إذا كان أربعين قلة " فكيف لكم أن تستعملوا حديث القلتين وتسقطوا ما سواه من العدد .

                                                                                                                                            والجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن حديث الأربعين قلة رواه محمد بن المنكدر عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا عليه فلم يؤخذ به ، وحديث الثلاثة القلال تفرد به بعض أصحاب حماد بن سلمة . عن عاصم بن المنذر وشك في قلتين أو ثلاث وسائر أصحاب حماد رووا قلتين من غير شك في ثلاث وهكذا من رواه من غير هذا الطريق بإسناد صحيح ، والنقلة الثقات لم يشكوا فيها فلم يجز أن يكون شك لواحد معارضا ليقين الجمع الكثير .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن يجمع بين الأخبار كلها وتستعمل على وجه يصح ، ولا يكون فيه تعارض فيكون القلتان محمولا على قلال هجر ، كما جاء فيه النص ، والثلاث على قلال أصغر منها فتسع قلتين من قلال هجر ، والأربعون قلة على صغارها التي تقل باليد تكون بقدر قلتين من قلال هجر .

                                                                                                                                            [ ص: 330 ] والسؤال السابع : إن قالوا : تسليم الحديث على لفظه في القلتين يمنع من الاستدلال به ، والتعلق بظاهر لفظه لقوله لم يحمل خبثا يعني أنه يضعف عن احتمال الخبث ، كما يقال هذا الخل لا [ يحمل ] الماء لضعفه عنه ، وهذا الطعام ، لا يحمل الغش يعني أنه يضعف عنه ، ويفسد به ، وهذا الرجل لا يحمل هذا المتاع إذا عجز عنه ، وعنه ثلاثة أوجه من الجواب :

                                                                                                                                            أحدها : إن هذا التأويل يمنع أن يكون لتحديد القلتين فائدة ، وهذا فاسد .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قد روي في أكثر الأخبار لم ينجس ، وهذا صريح لا تأويل عليه .

                                                                                                                                            والثالث : أن معنى قوله لم يحمل خبثا أي لم يقبل خبثا كقوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا [ الجمعة : 5 ] أي لم يقبلوها ولم يلتزموا حكمها ، فسلم الحديث من الاعتراض بهذه الأسئلة وصح الاحتجاج به على كل مخالف .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية