الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وإن كانت الصلاة ظهرا أو عصرا أو عشاء وكان في الحضر صلى بكل طائفة ركعتين ، وإن جعلهم أربع فرق وصلى بكل طائفة ركعة ففي صلاة الإمام قولان : ( أحدهما ) : أنها تبطل ; لأن الرخصة وردت بانتظارين ، فلا تجوز الزيادة عليهما ( والثاني ) : أنها لا تبطل ، وهو الأصح ; لأنه قد يحتاج إلى أربع انتظارات بأن يكون المسلمون أربعمائة ، والعدو ستمائة فتحتاج أن يقف بإزاء العدو ثلاثمائة ويصلي بمائة مائة ، ولأن الانتظار الثالث والرابع بالقيام والقراءة والجلوس والذكر وذلك لا يبطل الصلاة .

                                      فإن قلنا : إن صلاة الإمام لا تبطل صحت صلاة الطائفة الأخيرة ; لأنهم لم يفارقوا الإمام ، والطائفة الأولى والثانية والثالثة فارقوه بغير عذر ومن فارق الإمام بغير عذر ففي بطلان صلاته قولان فإن قلنا : إن صلاة الإمام تبطل ففي وقت بطلانها وجهان ، وقال أبو العباس : تبطل بالانتظار الثالث فتصح صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة ، وأما الرابعة فإن علموا ببطلان صلاته بطلت صلاتهم ، وإن لم يعلموا لم تبطل ، وقال أبو إسحاق : المنصوص أنه تبطل صلاة الإمام بالانتظار الثاني ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم انتظر الطائفة الأولى حتى فرغت ورجعت إلى وجه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى وانتظر بقدر ما أتمت صلاتها ، وهذا قد زاد على ذلك ; لأنه انتظر الطائفة الأولى حتى أتمت صلاتها ، ومضت إلى وجه العدو وانتظر الثانية حتى أتمت صلاتها ، ومضت إلى وجه العدو ، وجاءت الطائفة الثالثة ، وهذا زائد على انتظار [ ص: 301 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى هذا إن علمت الطائفة الثالثة بطلت صلاتهم ، وإن لم يعلموا لم تبطل )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال أصحابنا : إذا كانت صلاة الخوف أربع ركعات بأن صلى في الحضر أو أتم في السفر فينبغي أن يفرقهم فرقتين فيصلي بكل طائفة ركعتين ، ثم هل الأفضل أن ينتظر الثانية في التشهد الأول ؟ أم في القيام الثالث ؟ فيه الخلاف السابق في المغرب .

                                      ويتشهد بكل طائفة بلا خلاف ; لأنه موضع تشهد الجميع ، وإذا قلنا في القيام ، فهل يقرأ ؟ فيه الخلاف السابق وإذا قلنا : ينتظرهم في التشهد انتظرهم فيه حتى يحرموا ، فلو فرقهم أربع فرق فصلى بكل فرقة ركعة وينتظر فراغها ويجيء التي بعدها ففي جوازه قولان مشهوران نص عليهما في المختصر والأم وينبني عليهما صحة صلاة الإمام ( أصحهما ) عند المصنف والأصحاب : جواز وصحة صلاة الإمام ( والثانية ) : تحريمه وبطلان صلاة الإمام ووجه البطلان : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على انتظارين ، والرخص لا يتجاوز فيها النصوص ، ووجه الصحة أنه قد يحتاج إلى ذلك بأن يكون العدو ستمائة والمسلمون أربعمائة فيقف بإزائهم ثلاثمائة ويصلي معه مائة مائة ، ولأن الانتظار إنما هو بإطالة القيام والقعود والقراءة والذكر ، وهذا لا يبطل الصلاة ، وإنما اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على انتظارين ; لأنه القدر الذي احتاج إليه ولعله لو احتاج زيادة زاد .

                                      وهذا الخلاف السابق في المسافر إذا أقام لحاجة يرجو قضاءها هل يقصر أبدا ؟ أم لا يتجاوز ثمانية عشر يوما ؟ ومثله الوتر ، هل هو منحصر بإحدى عشرة ركعة ؟ أو ثلاث عشرة ؟ أم لا حصر له ؟ فيه خلاف سبق ، وإذا قلنا بالجواز ; قال إمام الحرمين : شرطه الحاجة ، فإن لم يكن حاجة فهو كفعله في حال الاختيار ، ولم يذكر الأكثرون هذا الشرط ، بل في كلام المصنف والأصحاب إشارة إلى أنه لا يشرط ; لأنهم قالوا : لأنه قد يحتاج إليه وهذا تصريح بأن الحاجة ليست شرطا فالصحيح أنها ليست شرطا ، قال أصحابنا : وعلى هذا القول تكون الطائفة الرابعة كالثانية في ذات الركعتين ، فيعود الخلاف في أنهم يفارقونه قبل التشهد أم بعده ؟ وقبل السلام أم بعد سلام الإمام ؟ والصحيح : قبل التشهد ، وتتشهد الطائفة الثانية معه على أصح [ ص: 302 ] الوجهين ، وفي وجه تفارقه قبل التشهد ، قال أصحابنا : وعلى هذا القول تصح صلاة الإمام والطائفة الرابعة ; لأنهم لم يفارقوه ، وفي الطوائف الثلاث القولان فيمن فارق الإمام بلا عذر ( أصحهما ) : الصحة ، هكذا قال الأصحاب : إنهم فارقوا بلا عذر ; لأنهم غير مضطرين إلى الصلاة على هذا الوجه لإمكان صلاته بهم ركعتين ركعتين ، أو صلاتهم فرادى .

                                      وحكى الشيخ أبو حامد والماوردي وجها أنهم يفارقون بعذر ، ولا تبطل صلاتهم .

                                      قال الماوردي : وهو الأظهر ; لأن إخراج أنفسهم ليس إلى اختيارهم ، فإنهم لو أرادوا البقاء مع الإمام لم يمكنهم ، فكان عذرا .

                                      والمشهور الذي قطع به الأصحاب : أنه ليس عذرا ، وأما إذا قلنا : لا يجوز تفريقهم أربع فرق فصلاة الإمام تبطل ، وفي وقت بطلانها وجهان : ( الصحيح ) عند الأصحاب ، وهو ظاهر نص الشافعي وقول أبي إسحاق المروزي وجمهور المتقدمين : تبطل بالانتظار في الركعة الثالثة ; لأنه زائد ( والثاني ) : قاله ابن سريج : تبطل بالانتظار في الرابعة ; لأنه يباح انتظاران ، ويحرم الثالث ، وإنما يحصل الثالث بانتظار مجيء الرابعة ، فعلى هذا تفارقه الثالثة ، وصلاته صحيحة ، فعلى قول الجمهور وجهان حكاهما الرافعي وغيره ( أحدهما ) : تبطل بمضي الطائفة الثانية ، والثاني بمضي قدر ركعة من انتظاره الثاني .

                                      وأما صلاة المأمومين فالطائفة الأولى والثانية فارقتاه قبل بطلان صلاته ، ففي بطلان صلاتهم القولان فيمن فارق بغير عذر ، كما سبق في التفريع على قول صحة صلاته ، ويجيء وجه الشيخ أبي حامد والماوردي ، وجزم المصنف والجمهور بصحة صلاتهما ، وهو تفريع على الأصح فيمن فارق بلا عذر أن صلاته لا تبطل وإلا فقد ذكروا كلهم الخلاف فيما إذا قلنا : صلاة الإمام صحيحة ، وهذا أولى بجريان الخلاف وممن ذكر الخلاف هنا المتولي ، وآخرون .

                                      وأما الطائفة الرابعة فتبطل صلاتهم باتفاق الأصحاب على هذا القول إن كانوا عالمين .

                                      ، ولا يبطل إن لم يعلموا ، وفيما يعتبر علمهم به فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الشامل ( أحدهما ) : يعتبر أن يعلم أن الإمام انتظر من لا يجوز انتظاره ، ولا يشترط أن يعلم أن ذلك يبطل صلاة الإمام ، كما أن من صلى خلف من يعلم أنه جنب تبطل صلاته ، [ ص: 303 ] وإن جهل كون الجنابة تبطل الاقتداء - وهو ظاهر نصه في المختصر - فإنه قال : وتبطل صلاة من علم ما صنع الإمام ( وأصحهما ) وبه قطع المصنف والجمهور أن المراد : أن يعلم أن هذا لا يبطل الصلاة ; لأنه معرفة هذا غامضة على أكثر الناس ، لا سيما إذا رأوا الإمام يصلي بهم ، بخلاف الجنابة فإنه لا يخفى حكمها على أحد إلا في نادر جدا .

                                      وأما الطائفة الثالثة فعند ابن سريج هي كالأولى والثانية ; لأنها فارقت الإمام قبل بطلان صلاته ، وعند الجمهور حكمها حكم الرابعة ; لأنها تابعته بعد بطلان صلاته .

                                      قال أصحابنا : ولو فرقهم في صلاة المغرب ثلاث فرق فصلى بكل فرقة ركعة ، فإن جوزنا ذلك فهو كما سبق في الفرق الأربع على قول الجواز ، وإن لم نجوزه فصلاة الطوائف الثلاثة صحيحة عند ابن سريج .

                                      وأما عند الجمهور فصلاة الأوليين على ما سبق في الأربع ، وصلاة الثالثة باطلة إن علموا ، وإلا فصحيحة ، وفيما يعتبر العلم فيه الخلاف السابق ، إذا اختصرت حكم الفرق الأربع ، قلت : فيهم خمسة أقوال : ( أصحها ) صحة صلاة الجميع ( والثاني ) : بطلان الجميع ( والثالث ) : صحة صلاة الإمام والطائفة الأخيرة فقط ( والرابع ) : صحة صلاة الأولتين وبطلان صلاة الآخرتين إن علمتا ( والخامس ) : صحة الطوائف الثلاث الأول ، وبطلان الإمام ، والرابعة إن علمت ، وهو قول ابن سريج .

                                      أما إذا فرقهم في الرباعية فرقتين فصلى بالفرقة الأولى ركعة وبالثانية ثلاثا أو عكسه فقال البندنيجي وصاحبا الحاوي والشامل والأصحاب ، ونقلوه عن نصه في الأم : تصح صلاة الإمام والطائفتين بلا خلاف وكانت مكروهة ، ويسجد الإمام والطائفة الثانية سجود السهو للمخالفة بالانتظار في غير موضعه .

                                      قال صاحب الشامل بعد أن حكى هذا عن نص الشافعي : وهذا يدل على أن العامد كالساهي في سجود السهو ، على أنه إذا فرقهم أربع فرق وقلنا : لا تبطل صلاتهم فعليهم سجود السهو .

                                      وانفرد صاحب التتمة فقال : لا خلاف في هذه الصورة أن الصلاة مكروهة ; لأن الشرع ورد بالتسوية بين الطائفتين .

                                      قال : وهل تصح صلاة الإمام أم لا ؟ إن قلنا : لو فرقهم أربع فرق تصح فهنا أولى ، وإلا فقد انتظر في غير موضعه فيكون كمن قنت في [ ص: 304 ] غير موضعه ، قال : وأما المأمومون فعلى التفصيل فيما لو فرقهم أربع فرق .

                                      وهذا الذي قاله شاذ ، والصواب ما قدمناه عن نص الشافعي والأصحاب .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن صلاة الخوف جائزة في الحضر .

                                      هذا مذهبنا ، وقال مالك : لا تجور في الحضر ، دليلنا عموم الآية ، ولأن صلاة الخوف جوزت للاحتياط للصلاة والحرب .

                                      وهذا موجود ; ولأنها تجوز في المغرب والصبح وهما تامتان .

                                      فإن قالوا : الإمام يطول انتظاره لمن يأتي بركعتين أكثر من طوله لمن يأتي بركعة وإنما انتظر النبي صلى الله عليه وسلم لمن يأتي بركعة فقط ، فالجواب : أن الانتظار ليس له حد محدود .

                                      وقال القاضي أبو الطيب : ولهذا يجوز لكل واحدة من الطائفتين أن تطول صلاتها لنفسها ، والإمام ينتظرها ، ولو طالت ركعتها قدر ركعات ، والله أعلم



                                      ( فرع ) لو كان الخوف في بلد وحضرت الجمعة فالمذهب والمنصوص أن لهم صلاة الجمعة على هيئة صلاة ذات الرقاع ، وقيل في جوازها قولان ، وقيل وجهان حكاهما البندنيجي وآخرون ; ثم للجواز شرطان ( أحدهما ) : أن يخطب بجميعهم ثم يفرقهم فرقتين ، أو يخطب بفرقة ويجعل منها مع كل واحدة من الفرقتين أربعين فصاعدا ، فلو خطب بفرقة وصلى بأخرى لم يجز ( الثاني ) : أن تكون الفرقة الأولى أربعين فصاعدا ، فلو نقصت عن أربعين لم تنعقد الجمعة ، ولو نقصت الفرقة الثانية عن أربعين فطريقان حكاهما الرافعي ( أصحهما ) وبه قطع البندنيجي لا يضر قطعا للحاجة والمسامحة في صلاة الخوف .

                                      ( والثاني ) : أنه على خلاف في الانفضاض ، ولو خطب بهم ثم أراد أن يصلي بهم صلاة عسفان التي سنذكرها قريبا إن شاء الله - تعالى ، فهو أولى بالجواز من صلاة ذات الرقاع ، ولا يجوز كصلاة بطن نخل بلا خلاف ; إذ لا تقام جمعة بعد جمعة في بلد واحد



                                      ( فرع ) صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على أصح الوجهين ; لأنها أعدل بين الطائفتين ، ولأنها صحيحة بالإجماع ، وتلك صلاة مفترض خلف متنفل ومنها خلاف للعلماء ( والثاني ) : وهو قول أبي إسحاق : صلاة بطن نخل أفضل لتحصل كل طائفة فضيلة جماعة تامة



                                      [ ص: 305 ] فرع ) قال الشافعي في مختصر المزني : والطائفة ثلاثة وأكثر وأكره أن يصلي بأقل من طائفة ، وأن يحرسه أقل من طائفة ، هذا نصه ، واتفق عليه أصحابنا ، قالوا : الطائفة التي يصلي بها يستحب أن تكون جمعا أقلهم ثلاثة ، وكذلك الطائفة التي تحرسه يكونون جمعا أقلهم ثلاثة ، ويكره أن تكون واحدة من الطائفتين أقل من ثلاثة .

                                      وذكر أصحابنا عن أبي بكر بن داود الظاهري أنه قال : قول الشافعي أقل الطائفة ثلاثة خطأ ; لأن الطائفة في اللغة والشرع يطلق على واحد ، فأما اللغة فحكى ثعلب عن الفراء أنه قال : مسموع من العرب أن الطائفة الواحد .

                                      وأما الشرع فهو أن الشافعي احتج في قبول خبر الواحد بقول الله تعالى - : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } فحمل الطائفة على الواحد .

                                      وقال تعالى - : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } والمراد واحد .

                                      وأجاب أصحابنا بأجوبة : ( أحدها ) وهو المشهور تسليم أن الطائفة يجوز إطلاقها على واحد ، وإنما أراد الشافعي أن الطائفة في صلاة الخوف يستحب أن لا تكون أقل من ثلاثة لقوله تعالى - : { وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } وقال تعالى في الطائفة الأخرى { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } فذكرهم بلفظ الجمع في كل المواضع ; وأقل الجمع ثلاثة .

                                      وأما الطائفة في قوله تعالى - : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } فإنما حملناه على الواحد للقرينة ، وهو حصول الإنذار بالواحد ، كما حملناه هنا على الثلاثة بقرينة ، وهو ضمن الجمع .

                                      فإن قيل : فقد قال الله - تعالى في هذه الآية { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } فأعاد على الطائفة ضمائر الجمع ، ولم يلزم من ذلك كون الطائفة ثلاثة ( فالجواب ) : أن الجمع هنا على عود الضمائر إلى الطوائف التي دل عليها قوله تعالى - : ( من كل فرقة ) قال أصحابنا : وتكره صلاة الخوف إذا كانوا خمسة سوى [ ص: 306 ] الإمام كما نص عليه الشافعي ، ولا تزول الكراهة حتى يكونوا ستة ، فإذا كانوا خمسة أو أقل صلى معهم جميع الصلاة ثم انصرفوا وجاء الآخرون فصلوا لأنفسهم جماعة .

                                      قال الماوردي وغيره : فإن خالف وصلى بهم صلاة الخوف ، وهم خمسة فأقل أساء وكره كراهة تنزيه وصحت صلاة الجميع




                                      الخدمات العلمية