الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل : وإن منعها النفقة ، أو بعضها مع اليسار ، وقدرت له على مال أخذت منه ما يكفيها وولدها بالمعروف بلا إذنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند حين قالت له : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي ، قال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف . فإن لم تقدر أجبره الحاكم وحبسه ، فإن لم ينفق دفع النفقة من ماله . فإن غيبه وصبر على الحبس فلها الفسخ ، وقال القاضي : ليس لها ذلك ، وإن غاب ولم يترك لها نفقة ، ولم تقدر على مال له ، ولا الاستدانة عليه فلها الفسخ إلا عند القاضي فيما إذا لم يثبت إعساره . ولا يجوز الفسخ في ذلك كله إلا بحكم حاكم .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          ( وإن منعها النفقة ، أو بعضها ) أو الكسوة ، أو بعضها ( مع اليسار ، وقدرت له على مال أخذت منه ما يكفيها وولدها ) الصغير ( بالمعروف بلا إذنه ) نص عليه ( لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند حين قالت له : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي ، قال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) متفق عليه من حديث عائشة ، ولفظه للبخاري ، وظاهره يدل على أنه يعطيها بعض الكفاية ، ولا يتمها لها ، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ [ ص: 210 ] تمام الكفاية بغير علمه ; لأنه موضع حاجة ، فإن النفقة لا غنى عنها ، ولا قوام إلا بها ، ولأنها تتجدد بتجدد الزمان شيئا فشيئا فتشق المرافعة إلى الحاكم ، والمطالبة بها في كل الأوقات ، وذكر القاضي أنها تسقط بفوات وقتها عند جمع ما لم يفرضها حاكم ، بخلاف الدين ، فإنه لا يسقط عند أحد بترك المطالبة ، وفي " الروضة " القياس منعها تركناه للخبر ، وفي ولدها وجه في " الترغيب " ، لكن يرد على المذهب قوله - عليه السلام - أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك فإنه يقتضي المنع من الأخذ مطلقا ، وجوابه : حديث هند ; لأنه خاص بالنفقة فقدم على غيره .

                                                                                                                          فرع : لا تقترض على الأب ، ولا تنفق على الصغير من ماله إلا بإذن وليه ( فإن لم تقدر ) أي : على الأخذ من ماله رافعته إلى الحاكم فيأمره بالإنفاق ( أجبره الحاكم ) أي : على الإنفاق ( و ) إن أبى ( حبسه ) لأن الحاكم وضع لفصل الخصومات ، والحبس طريق إلى الفصل فتعين فعله ( فإن لم ينفق دفع ) الحاكم ( النفقة من ماله ) لأنها حق واجب عليه ، فإذا امتنع من عليه ذلك من أدائه وجب الدفع إلى مستحقه من مال خصمه كالدين ، بل أولى ; لأنها آكد من الدين بدليل جواز الأخذ بغير إذن المالك ، فإن لم يجد إلا عروضا ، أو عقارا باعه ودفع إليها من ثمنه كالنقدين ويدفعها منه يوما بيوم .

                                                                                                                          تنبيه : حكم وكيله حكمه في المطالبة ، والأخذ من المال عند امتناعه ، فإن ادعت يساره فأنكر ، فإن عرف له مال قبل قولها ، وإلا قوله ، وإن اختلفا في فرض الحاكم لها ، أو في وقتها ، فقال : فرضها منذ شهر ، فقالت : بل منذ [ ص: 211 ] عام قبل قوله ; لأن الأصل معه ( فإن غيبه وصبر على الحبس فلها الفسخ ) إذا غيب الزوج ماله وتعذر الإنفاق من جهته وصبر على الحبس فلها الفسخ كما لو كان معسرا ، وهو ظاهر الخرقي ، واختاره أبو الخطاب ، وقدمه في " المحرر " ، و " الفروع " لحديث عمر : أنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا ، أو يطلقوا . وهذا إجبار على الطلاق عند الامتناع من الإنفاق ; لأن الإنفاق عليها من ماله متعذر ، فكان لها الخيار كحال الإعسار ، بل هذا أولى بالفسخ ، فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور فغيره أولى ( وقال القاضي ) واختاره الأكثر ، قاله في " الترغيب " ( ليس لها ذلك ) أي : لا تملك الفسخ ; لأن الفسخ لعيب المعسر ، ولم يوجد هنا ، ولأن الموسر في مظنة الأخذ من ماله ، ولأن الحاضر قد ينفق لطول الحبس . ( وإن غاب ) موسر ( ولم يترك لها نفقة ، ولم تقدر على مال له ، ولا الاستدانة عليه فلها الفسخ ) لأنها تقدر على الوصول إلى نفقتها ، أشبه ما لو ثبت إعساره ، وظاهره أنه إذا ترك لها نفقة ، أو قدرت على مال له ، أو على الاستدانة عليه - أنه لا فسخ لها ; لأن الإنفاق عليها من جهته غير متعذر ( إلا عند القاضي فيما إذا لم يثبت إعساره ) لأن الفسخ ثبت لعيب الإعسار ، ولم يثبت الإعسار هنا وهذه مثل الأولى في الفسخ ، بل أولى ; لأن الحاضر ربما إذا طال عليه الحبس أنفق ، وهذا قد تكون غيبته بحيث لا يعلم خبره ، فيكون الضرر فيه أكثر ، وعلم أنه إذا ثبت إعساره أن لها الفسخ مطلقا .

                                                                                                                          تذنيب : إذا كان له عليها دين من جنس الواجب لها من النفقة فأراد أن [ ص: 212 ] يحتسب عليها ، وهي موسرة ، فله ذلك ، وإن كانت معسرة فلا ; لأن قضاء الدين في الفاضل عن الكفاية ، ولا فضل لها ، فلو أنفق عليها من مال زوجها الغائب ، ثم تبين أنه مات قبل إنفاقه حسب عليها ، أنفقته بنفسها ، أو بأمر الحاكم بغير خلاف نعلمه ، قال ابن الزاغوني : إذا ثبت عند الحاكم صحة النكاح ومبلغ المهر ، فإن علم مكانه ، كتب : إن سلمت إليها حقها ، وإلا بعث عليك بقدره ، فإن أبى ، أو لم يعلم بمكانه باع بقدر نصفه لجواز طلاقه قبل الدخول ( ولا يجوز الفسخ في ذلك كله إلا بحكم حاكم ) لأنه فسخ مختلف فيه ، فافتقر إلى الحاكم كالفسخ للعنة ، ولا يفسخ إلا بطلبها ; لأنه لحقها ، أو تفسخ هي بأمره ، فإذا فرق الحاكم بينهما ، فهو فسخ ، لا رجعة له فيه ، فإذا ثبت إعساره فسخ بطلبها ، أو فسخت بأمره ، ولا ينفذ بدونه ، وقيل : ظاهرا ، وفي " الترغيب " ينفذ مع تعذره ، زاد في " الرعاية " : مطلقا ، وإن قلنا : هو طلاق لأمره بطلبها بطلاق ، أو نفقة ، فإن أبى طلق عليه ، جزم به في " التبصرة " ، فإن راجع ، فقيل : لا تصح مع عسرته ، وقيل : بلي فيطلق ثانية ، ثم ثالثة ، وقيل : إن طلب المهلة ثلاثة أيام أجيب ، فلو لم يقدر فقيل : ثلاثة أيام ، وقيل : إلى آخر اليوم المتخلفة نفقته ، وفي " المغني " يفرق بينهما ، وهي فسخ ، فإن أجبره على الطلاق فطلق فراجع ، ولم ينفق فللحاكم الفسخ ، وظاهر كلام القاضي أن الحاكم يملك الطلاق ، والفسخ ، وإن أيسر في العدة فله ارتجاعها ; لأنه تفريق لامتناعه من الواجب ، أشبه تفريقه بين المؤلي وامرأته .




                                                                                                                          الخدمات العلمية