الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية قوله : " هي " نزع بذلك كثير من العلماء إلى أنها في ليلة سبع وعشرين ; لأنهم عدوا حروف السورة ، فلما بلغوا إلى قولهم : ( هي ) وجدوها سبعة وعشرين حرفا ، فحكموا عليه بها ، وهو أمر بين ، وعلى النظر بعد التفطن له هين ، ولا يهتدي له إلا من كان صادق الفكر ، شديد العبرة ، وقد أشبعت القول في هذه المسألة [ ص: 373 ] في كتاب شرح الصحيحين . ولبابه اللائق بالأحكام أن العلماء اختلفوا في تحريرها على ثلاثة عشر قولا : الأول أنها في العام كله . سئل ابن مسعود عن ليلة القدر ; فقال : من يقم الحول يصب ليلة القدر .

                                                                                                                                                                                                              الثاني أنها في شهر رمضان دون سائر شهور العام ; قاله سائر الأئمة عدا ما سميناه .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنها ليلة سبع عشرة من الشهر ; قاله عبد الله بن الزبير .

                                                                                                                                                                                                              الرابع أنها ليلة إحدى وعشرين .

                                                                                                                                                                                                              الخامس أنها ليلة ثلاث وعشرين .

                                                                                                                                                                                                              السادس أنها ليلة خمس وعشرين .

                                                                                                                                                                                                              السابع أنها ليلة سبع وعشرين .

                                                                                                                                                                                                              الثامن أنها ليلة تسع وعشرين .

                                                                                                                                                                                                              التاسع أنها في الأشفاع للأفراد الخمسة ; فإذا أضفتها إلى الثمانية الأقوال اجتمع فيها ثلاثة عشر قولا ، أصولها هذه التسعة التي أشرنا إليها .

                                                                                                                                                                                                              توجيه الأقوال وأدلتها : أما قول ابن مسعود إنها في العام كله ، فنزع إلى أنها موجودة شرعا ، مخبر عنها قطعا ولم يتعين لتوقيتها دليل ، فبقيت مترقبة في الزمان كله ، وقد رآه ابن مسعود مع فقهه في كتاب الله وعلمه به .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنها في شهر رمضان فلأن { النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول يطلبها ، واعتكف العشر الأواخر } ، ولو كانت مخصصة بجزء منه ما تقلب في جميعه يطلبها فيه .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنها ليلة سبع عشرة فإن عبد الله بن الزبير نزع بقوله تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } وكان ذلك ليلة سبع عشرة .

                                                                                                                                                                                                              وأما قول من قال : إنها إحدى وعشرين فمعوله على حديث أبي سعيد الخدري [ ص: 374 ] قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاوز العشر التي في أول الشهر ، ثم اعتكف العشر الأواسط في قبة تركية على سدتها حصير ، ثم قال : إني أوتيت ، وقيل لي : إنها في العشر الأواخر ، وإني رأيتها ليلة وتر ، وكأني أسجد صبيحتها في ماء وطين . فأصبح من ليلة إحدى وعشرين ، وقد صلى الصبح ، فمطرت السماء ، ووكف المسجد ; فخرج حين فرغ من صلاة الصبح ، وجبينه وأرنبة أنفه فيهما أثر الطين والماء } .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنها ليلة ثلاثة وعشرين فلوجهين : أحدهما { أن عبد الله بن أنيس قال للنبي صلى الله عليه وسلم : مرني بليلة أنزل فيها إليك . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : انزل ليلة ثلاث وعشرين } .

                                                                                                                                                                                                              وفي صحيح مسلم { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين . قال عبد الله بن أنيس : فرأيته في صبيحة ثلاث وعشرين سجد في الماء والطين ، كما أخبر صلى الله عليه وسلم } .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنها ليلة خمس وعشرين ; ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : التمسوها في العشر الأواخر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى ، وفي خامسة تبقى } ، زاد النسائي على مسلم { أو ثلث آخر ليلة } .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنها ليلة سبع وعشرين فاحتج بالحديث الصحيح في مسلم عن أبي بن كعب ، { قال زر بن حبيش : سألت أبي بن كعب ، فقلت : إن أخاك ابن مسعود يقول : من يقم الحول يصب ليلة القدر . فقال رحمه الله : أراد ألا يتكل الناس ، أما إنه قد علم أنها في شهر رمضان ، وأنها في العشر الأواخر ، وأنها ليلة سبع وعشرين ، ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين . فقلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ فقال : بالعلامة التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الشمس من صبيحتها أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها } .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنها ليلة تسع وعشرين فنزع بحديث النسائي المتقدم . [ ص: 375 ]

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنها في الأشفاع فنزع بالحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال : { اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط من رمضان ، يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له ، فلما انقضين أمر بالبناء فقوض ، ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر ، فأمر بالبناء فأعيد ، ثم خرج على الناس فقال : يا أيها الناس ; إنه كانت أبينت لي ليلة القدر ، وإني خرجت لأخبركم بها ، فجاء رجلان يختصمان معهما الشيطان ، فنسيتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة } .

                                                                                                                                                                                                              قال أبو نضرة راوي الحديث : قلت لأبي سعيد : إنكم أعلم بالعدد منا . قال : أجل ، نحن أحق بذلك منكم . قال : فقلت : فما التاسعة والسابعة والخامسة ؟ قال : إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنتان وعشرون فهي التاسعة ، وإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة ، وإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها وهي الخامسة .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية في الصحيح فيها وترجيح سبل النظر الموصلة إلى الحق منها : وذلك أنا نقول : إن الله تبارك وتعالى قال : { ليلة القدر خير من ألف شهر } فأفاد هذا بمطلقه ، لو لم يكن كلام سواه أنها في العام كله لقوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر } فأنبأنا أنه أنزله في ليلة من العام .

                                                                                                                                                                                                              فقلنا : من يقم الحول يصب ليلة القدر ، ثم نظرنا إلى قوله تعالى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } فأفادنا ذلك أن تلك الليلة هي ليلة من شهر رمضان ; لإخبار الله أن القرآن أنزل فيها ، فقلنا : من يقم شهر رمضان يصب ليلة القدر ، وقد طلبها الرسول صلى الله عليه وسلم في أوله وفي أوسطه وفي آخره رجاء الحصول .

                                                                                                                                                                                                              وقال : { من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } ; ولم يعمه بالطلب لما كان يظنه من التخصيص ، ورجاء ألا يشق على أمته ، ثم أنبأه الله بها ، فخرج ليخبر بها فأنسيها لشغله مع المتخاصمين ، لكن بقي له من العلم الذي كان أخبر به أنها في العشر الأواخر ، ثم أخبر في الصحيح أنها في العشر الأواخر . [ وتواطأت روايات الصحابة على أنها في العشر الأواخر ] ، كما قال هو صلى الله عليه وسلم واقتضت رؤياه أنها في العشر الأواخر من طريق أبي سعيد الخدري في ليلة إحدى وعشرين .

                                                                                                                                                                                                              [ ومن طريق عبد الله بن أنيس أنها ليلة [ ص: 376 ] ثلاث وعشرين ] ; ثم أنبأ عنها بعلامة ، وهي طلوع الشمس بيضاء لا شعاع لها يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة ، فوجد ذلك الصحابة ليلة سبع وعشرين ، ولم نصلح لرؤية ذلك النور لكثرة ظلمة الذنوب ، فإن رآها أحد من المذنبين فحجة عليه إن مات ونقمة منه إن بقي كما كان ، ثم خص السبع الأواخر من جملة الشهر ، فحث على التماسها فيها ، ثم وجدناها بالرؤيا الحق ليلة إحدى وعشرين في عام ، ثم وجدناها بالرؤيا الصدق في ليلة ثلاث وعشرين في عام ، ثم وجدناها بالعلامة الحق ليلة سبع وعشرين ; فعلمنا أنها تنتقل في الأعوام ، لتعم بركتها من العشر الأواخر جميع الأيام ، وخبأها عن التعيين ليكون ذلك أبرك على الأمة في القيام في طلبها شهرا أو أياما ، فيحصل مع ليلة القدر ثواب غيرها ، كما خبأ الكبائر في الذنوب وساعة الجمعة في اليوم حسبما قدمناه .

                                                                                                                                                                                                              فهذه سبل النظر المجتمعة في القرآن والحديث أجمع ، فتبصروها لمما ، واسلكوها أمما إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية