الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن هذا هو القصة الثالثة ، وهو قصة صالح .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وإلى ثمود ) فالمعنى " ولقد أرسلنا نوحا ، وإلى عاد أخاهم هودا ، وإلى ثمود أخاهم صالحا " وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال أبو عمرو بن العلاء : سميت ثمود لقلة مائها ، من الثمد وهو الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى ، وقيل : سميت ثمود لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرئ " وإلى ثمود " بمنع الصرف بتأويل القبيلة " وإلى ثمود " بالصرف بتأويل الحي أو باعتبار الأصل ؛ لأنه اسم أبيهم الأكبر ، وقد ورد القرآن بهما صريحا . قال تعالى : ( ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ) [ هود : 68 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى حكى عنه أنه أمرهم بعبادة الله ، ونهاهم عن عبادة غير الله كما ذكره من قبله من الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( قد جاءتكم بينة من ربكم ) وهذه الزيادة مذكورة في هذه القصة ، وهي تدل على أن كل من كان قبله من الأنبياء كانوا يذكرون الدلائل على صحة التوحيد والنبوة ؛ لأن التقليد وحده لو كان كافيا لكانت [ ص: 132 ] تلك البينة ههنا لغوا ، ثم بين أن تلك البينة هي الناقة ، فقال : ( هذه ناقة الله لكم آية ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ذكروا أنه تعالى لما أهلك عادا قام ثمود مقامهم ، وطال عمرهم ، وكثر تنعمهم ، ثم عصوا الله ، وعبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم صالحا وكان منهم ، فطالبوه بالمعجزة . فقال : ما تريدون ؟ فقالوا : تخرج معنا في عيدنا ، ونخرج أصنامنا وتسأل إلهك ونسأل أصنامنا ، فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك ، وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا ، فخرج معهم ، فسألوه أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معينة ، فأخذ مواثيقهم أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا ، فصلى ركعتين ودعا الله فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل ، ثم انفرجت وخرجت الناقة من وسطها ، وكانت في غاية الكبر ، وكان الماء عندهم قليلا ، فجعلوا ذلك الماء بالكلية شربا لها في يوم ، وفي اليوم الثاني شربا لكل القوم . قال السدي : وكانت الناقة في اليوم التي تشرب فيه الماء تمر بين الجبلين فتعلوهما ، ثم تأتي فتشرب ، فتحلب ما يكفي الكل ، وكأنها كانت تصب اللبن صبا ، وفي اليوم الذي يشربون الماء فيه لا تأتيهم ، وكان معها فصيل لها . فقال لهم صالح : يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه ، فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم ، ثم ولد العاشر فأبى أن يذبحه أبوه ، فنبت نباتا سريعا ، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يصيبون من الشراب ، فأرادوا ماء يمزجونه به ، وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء ، واشتد ذلك عليهم ، فقال الغلام : هل لكم في أن أعقر هذه الناقة ؟ فشد عليها ، فلما بصرت به شدت عليه ، فهرب منها إلى خلف صخرة ، فأحاشوها عليه ، فلما مرت به تناولها فعقرها فسقطت ، فذلك قوله : ( فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ) [ القمر : 29 ] وأظهروا حينئذ كفرهم وعتوا عن أمر ربهم ، فقال لهم صالح : إن آية العذاب أن تصبحوا غدا حمرا ، واليوم الثاني صفرا ، واليوم الثالث سودا ، فلما صبحهم العذاب تحنطوا واستعدوا .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : اختلف العلماء في وجه كون الناقة آية ، فقال بعضهم : إنها كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة . قال القاضي : هذا إن صح فهو معجز من جهات :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : خروجها من الجبل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثانية : كونها لا من ذكر وأنثى .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالثة : كمال خلقها من غير تدريج .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : إنها إنما كانت آية لأجل أن لها شرب يوم ، ولجميع ثمود شرب يوم ، واستيفاء ناقة شرب أمة من الأمم عجيب ، وكانت مع ذلك تأتي بما يليق بذلك الماء من الكلأ والحشيش .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : إن وجه الإعجاز فيها أنهم كانوا في يوم شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم لهم مقام الماء في يوم شربهم . وقال الحسن بالعكس من ذلك ، فقال : إنها لم تحلب قطرة لبن قط ، وهذا الكلام مناف لما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الرابع : أن وجه الإعجاز فيها أن يوم مجيئها إلى الماء كان جميع الحيوانات تمتنع من الورود على الماء ، وفي يوم امتناعها كانت الحيوانات تأتي .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن القرآن قد دل على أن فيها آية ، فأما ذكر أنها كانت آية من أي الوجوه فهو غير مذكور ، والعلم حاصل بأنها كانت معجزة من وجه ما لا محالة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية