الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( . . . من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ( 39 ) حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ( 40 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه : ( فسوف تعلمون ) ، أيها القوم ، إذا جاء أمر الله ، من الهالك ، ( من يأتيه عذاب يخزيه ) ، يقول : الذي يأتيه عذاب الله منا ومنكم يهينه ويذله ( ويحل عليه عذاب مقيم ) ، يقول : وينزل به في الآخرة ، مع ذلك ، عذاب دائم لا انقطاع له ، مقيم عليه أبدا .

وقوله : ( حتى إذا جاء أمرنا ) ، يقول : " ويصنع نوح الفلك " ( حتى إذا جاء أمرنا ) [ ص: 318 ] الذي وعدناه أن يجيء قومه من الطوفان الذي يغرقهم .

وقوله : ( وفار التنور ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك .

فقال بعضهم : معناه : انبجس الماء من وجه الأرض ( وفار التنور ) ، وهو وجه الأرض .

ذكر من قال ذلك :

18143 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن الضحاك ، عن ابن عباس أنه قال في قوله : ( وفار التنور ) ، قال : ( التنور ) ، وجه الأرض . قال : قيل له : إذا رأيت الماء على وجه الأرض ، فاركب أنت ومن معك . قال : والعرب تسمي وجه الأرض : "تنور الأرض" .

18144 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن العوام ، عن الضحاك ، بنحوه .

18145 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا الشيباني ، عن عكرمة ، في قوله : ( وفار التنور ) ، قال : وجه الأرض

18146 - حدثنا زكريا بن يحيى ابن أبي زائدة وسفيان بن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس ، عن الشيباني ، عن عكرمة : ( وفار التنور ) ، قال : وجه الأرض .

وقال آخرون : هو تنوير الصبح ، من قولهم : "نور الصبح تنويرا" .

ذكر من قال ذلك :

18147 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا محمد بن فضيل قال ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن عباس مولى أبي جحيفة ، عن أبي جحيفة ، عن [ ص: 319 ] علي رضي الله عنه قوله : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، قال : هو تنوير الصبح .

18148 - حدثنا ابن وكيع وإسحاق بن إسرائيل قالا حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن زياد مولى أبي جحيفة ، عن أبي جحيفة ، عن علي في قوله : ( وفار التنور ) ، قال : تنوير الصبح .

18149 - حدثنا حماد بن يعقوب ، قال : أخبرنا ابن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن مولى أبي جحيفة أراه قد سماه عن أبي جحيفة ، عن علي : ( وفار التنور ، ) قال : تنوير الصبح .

18150 - حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا هشيم ، عن ابن إسحاق ، عن رجل من قريش ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( وفار التنور ) ، قال : طلع الفجر .

18151 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن رجل قد سماه ، عن علي بن أبي طالب قوله : ( وفار التنور ) ، قال : إذا طلع الفجر .

وقال آخرون : معنى ذلك : وفار أعلى الأرض وأشرف مكان فيها بالماء . وقال : "التنور" أشرف الأرض .

ذكر من قال ذلك :

18152 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، كنا نحدث أنه أعلى الأرض وأشرفها ، وكان علما بين نوح وبين ربه

18153 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا سليمان قال ، حدثنا أبو هلال قال ، سمعت قتادة قوله : ( وفار التنور ) قال : أشرف الأرض وأرفعها ، فار الماء منه . [ ص: 320 ]

وقال آخرون : هو التنور الذي يختبز فيه .

ذكر من قال ذلك :

18154 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، قال : إذا رأيت تنور أهلك يخرج منه الماء ، فإنه هلاك قومك .

18155 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي محمد ، عن الحسن قال : كان تنورا من حجارة كان لحواء حتى صار إلى نوح . قال : فقيل له : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك .

18156 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وفار التنور ) ، قال : حين انبجس الماء ، وأمر نوح أن يركب هو ومن معه في الفلك .

18157 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وفار التنور ) ، قال : انبجس الماء منه ، آية ، أن يركب بأهله ومن معه في السفينة .

18158 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه إلا أنه قال : آية ، أن يركب أهله ومن معه في السفينة .

18159 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : آية بأن يركب بأهله ومن معهم في السفينة .

18160 - حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن ليث ، عن مجاهد قال ، نبع الماء في التنور ، فعلمت به امرأته فأخبرته قال ، وكان ذلك في ناحية الكوفة . [ ص: 321 ]

18161 - . . . . قال : حدثنا القاسم قال ، حدثنا علي بن ثابت ، عن السري بن إسماعيل ، عن الشعبي : أنه كان يحلف بالله ، ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة .

18162 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن النضر أبي عمر الخزاز ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( وفار التنور ) ، قال : فار التنور بالهند .

18163 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وفار التنور ) ، كان آية لنوح ، إذا خرج منه الماء فقد أتى الناس الهلاك والغرق .

وكان ابن عباس يقول في معنى "فار" نبع .

18164 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( وفار التنور ) ، قال : نبع .

قال أبو جعفر : و"فوران الماء" سورة دفعته ، يقال منه : "فار الماء يفور فورا وفئورا وفورانا " ، وذلك إذا سارت دفعته .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله : ( التنور ) ، قول من قال : "هو التنور الذي يخبز فيه" ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب ، إلا أن تقوم حجة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها . وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به ، لإفهامهم معنى ما خاطبهم به .

( قلنا ) ، لنوح حين جاء عذابنا قومه الذي وعدنا نوحا أن نعذبهم به ، وفار التنور [ ص: 322 ] الذي جعلنا فورانه بالماء آية مجيء عذابنا بيننا وبينه لهلاك قومه ( احمل فيها ) ، يعني في الفلك ( من كل زوجين اثنين ) ، يقول : من كل ذكر وأنثى ، كما : -

18165 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( من كل زوجين اثنين ) ، قال : ذكر وأنثى من كل صنف .

18166 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

18167 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( من كل زوجين اثنين ) ، فالواحد "زوج" ، و"الزوجين" ذكر وأنثى من كل صنف .

18168 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( من كل زوجين اثنين ) ، قال : ذكر وأنثى من كل صنف .

18169 - . . . . قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

18170 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ) ، يقول : من كل صنف اثنين .

18171 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( من كل زوجين اثنين ) ، يعني بالزوجين اثنين : ذكر وأنثى .

وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين ، "الزوجان" ، في كلام العرب : الاثنان . قال ، ويقال : "عليه زوجا نعال" ، إذا كانت عليه [ ص: 323 ] نعلان ، ولا يقال : "عليه زوج نعال" ، وكذلك : "عنده زوجا حمام" ، و"عليه زوجا قيود" . وقال : ألا تسمع إلى قوله : ( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) [ سورة النجم : 45 ] ، فإنما هما اثنان .

وقال بعض البصريين من أهل العربية في قوله : ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ) ، قال : فجعل "الزوجين" ، "الضربين" ، الذكور والإناث . قال : وزعم يونس أن قول الشاعر :


وأنت امرؤ تغدو على كل غرة فتخطئ فيها مرة وتصيب



يعني به الذئب . قال : فهذا أشذ من ذلك .

وقال آخر منهم : "الزوج" ، اللون . قال : وكل ضرب يدعى "لونا" ، واستشهد ببيت الأعشى في ذلك :


وكل زوج من الديباج يلبسه     أبو قدامة محبوا بذاك معا



ويقول لبيد :


وذي بهجة كن المقانب صوته     وزينه أزواج نور مشرب

[ ص: 324 ]

وذكر أن الحسن قال في قوله : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) [ سورة الذاريات : 49 ] : السماء زوج ، والأرض زوج ، والشتاء زوج ، والصيف زوج ، والليل زوج ، والنهار زوج ، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء .

وقوله : ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) ، يقول : واحمل أهلك أيضا في الفلك ، يعني ب "الأهل" ، ولده ونساءه وأزواجه ( إلا من سبق عليه القول ) ، يقول : إلا من قلت فيهم إني مهلكه مع من أهلك من قومك .

ثم اختلفوا في الذي استثناه الله من أهله .

فقال بعضهم : هو بعض نساء نوح .

ذكر من قال ذلك :

18172 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) ، قال : العذاب ، هي امرأته كانت في الغابرين في العذاب . [ ص: 325 ]

وقال آخرون : بل هو ابنه الذي غرق .

ذكر من قال ذلك :

18173 - حدثت عن المسيب ، عن أبي روق . عن الضحاك في قوله : ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) ، قال : ابنه ، غرق فيمن غرق .

وقوله : ( ومن آمن ) ، يقول : واحمل معهم من صدقك واتبعك من قومك يقول الله : ( وما آمن معه إلا قليل ) ، يقول : وما أقر بوحدانية الله مع نوح من قومه إلا قليل .

واختلفوا في عدد الذين كانوا آمنوا معه فحملهم معه في الفلك ، فقال بعضهم في ذلك : كانوا ثمانية أنفس .

ذكر من قال ذلك :

18174 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ) ، قال : ذكر لنا أنه لم يتم في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه ، ونساؤهم ، فجميعهم ثمانية .

18175 - حدثنا ابن وكيع والحسن بن عرفة قالا حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ، عن أبيه ، عن الحكم : ( وما آمن معه إلا قليل ) ، قال : نوح ، وثلاثة بنيه ، وأربع كنائنه .

18176 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : حدثت أن نوحا حمل معه بنيه الثلاثة ، وثلاث نسوة لبنيه ، وامرأة نوح ، فهم ثمانية بأزواجهم . وأسماء بنيه : يافث ، وسام ، وحام ، وأصاب حام زوجته في السفينة ، فدعا نوح أن يغير نطفته ، فجاء بالسودان . [ ص: 326 ]

وقال آخرون : بل كانوا سبعة أنفس .

ذكر من قال ذلك :

18177 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش : ( وما آمن معه إلا قليل ) ، قال : كانوا سبعة : نوح ، وثلاث كنائن له ، وثلاثة بنين .

وقال آخرون : كانوا عشرة سوى نسائهم .

ذكر من قال ذلك :

18178 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما فار التنور ، حمل نوح في الفلك من أمره الله به ، وكانوا قليلا كما قال الله ، فحمل بنيه الثلاثة : سام ، وحام ، ويافث ، ونساءهم ، وستة أناسي ممن كان آمن ، فكانوا عشرة نفر ، بنوح وبنيه وأزواجهم .

وقال آخرون : بل كانوا ثمانين نفسا .

ذكر من قال ذلك :

18179 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : حمل نوح معه في السفينة ثمانين إنسانا .

18180 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، كان بعضهم يقول : كانوا ثمانين يعني "القليل" الذي قال الله : ( وما آمن معه إلا قليل ) .

18181 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا زيد بن الحباب قال ، حدثني حسين بن واقد الخراساني قال ، حدثني أبو نهيك قال : [ ص: 327 ] سمعت ابن عباس يقول : كان في سفينة نوح ثمانون رجلا أحدهم جرهم .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله : ( وما آمن معه إلا قليل ) ، يصفهم بأنهم كانوا قليلا ولم يحدد عددهم بمقدار ، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح ، فلا ينبغي أن يتجاوز في ذلك حد الله ، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حد من كتاب الله ، أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية