الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر إرسال قريش إلى النجاشي في طلب المهاجرين

لما رأت قريش أن المهاجرين قد اطمأنوا بالحبشة وأمنوا ، وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم ، ائتمروا بينهم فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية ومعهما هدية إليه وإلى أعيان أصحابه ، فسارا حتى وصلا الحبشة ، فحملا إلى النجاشي هديته وإلى أصحابه هداياهم وقالا لهم : إن ناسا من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد أرسلنا أشراف قومهم إلى الملك ليردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يرسلهم معنا من غير أن يكلمهم ، وخافا أن يسمع النجاشي كلام المسلمين أن لا يسلمهم . فوعدهما أصحاب النجاشي المساعدة على ما يريدان . ثم إنهما حضرا عند النجاشي فأعلماه ما قد قالاه ، فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما . فغضب من ذلك وقال : لا والله لا أسلم قوما جاوروني ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان ، فإن كانا صادقين سلمتهم إليهما ، وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم .

ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم فحضروا ، وقد أجمعوا على صدقه فيما ساءه وسره ، وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب . فقال لهم النجاشي : ما [ ص: 677 ] هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل ؟ فقال جعفر : أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا لتوحيد الله ، وأن لا نشرك به شيئا ، ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم ، وأمرنا بالصلاة والصيام . وعدد عليه أمور الإسلام ، قال : فآمنا به وصدقناه ، وحرمنا ما حرم علينا ، وحللنا ما أحل لنا ، فتعدى علينا قومنا فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان ، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك على من سواك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك .

فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله شيء ؟ قال : نعم ، فقرأ عليه سطرا من ( كهيعص ) ، فبكى النجاشي وأساقفته ، وقال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، والله لا أسلمهم إليكما أبدا ! .

فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غدا بما يبيد خضراءهم . فقال له عبد الله بن أبي أمية ، وكان أتقى الرجلين : لا تفعل فإن لهم أرحاما .

فلما كان الغد قال للنجاشي : إن هؤلاء يقولون في عيسىابن مريم قولا عظيما . فأرسل النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح . فقال جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال : ما عدا عيسى ما قلت هذا العود . فنخرت بطارقته ، فقال : وإن نخرتم . وقال للمسلمين : اذهبوا فأنتم آمنون ، ما أحب أن لي جبلا من ذهب وأنني آذيت رجلا منكم . ورد هدية قريش وقال : ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم ، ولا أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه . وأقام المسلمون بخير دار .

وظهر ملك من الحبشة فنازع النجاشي في ملكه ، فعظم ذلك على المسلمين ، [ ص: 678 ] وسار النجاشي إليه ليقاتله ، وأرسل المسلمون الزبير بن العوام ليأتيهم بخبره ، وهم يدعون له ، فاقتتلوا ، فظفر النجاشي ، فما سر المسلمون بشيء سرورهم بظفره .

قيل : إن معنى قوله إن الله لم يأخذ الرشوة مني ، أن أبا النجاشي لم يكن له ولد غيره ، وكان له عم قد أولد اثني عشر ولدا ، فقالت الحبشة : لو قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام ، وكان أخوه وأولاده يتوارثون الملك دهرا . فقتلوا أباه وملكوا عمه ومكثوا على ذلك حينا ، وبقي النجاشي عند عمه ، وكان عاقلا ، فغلب على أمر عمه ، فخافت الحبشة أن يقتلهم جزاء لقتل أبيه ، فقالوا لعمه : إما أن تقتل النجاشي ، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فقد خفناه . فأجابهم إلى إخراجه من بلادهم على كره منه ، فخرجوا إلى السوق فباعوه من تاجر بستمائة درهم . فسار به التاجر في سفينته . فلما جاء العشاء هاجت سحابة فأصابت عمه بصاعقة ، ففزعت الحبشة إلى أولاده ، فإذا هم لا خير فيهم ، فهرج على الحبشة أمرهم ، فقال بعضهم : والله لا يقيم أمركم إلا النجاشي ، فإن كان لكم بالحبشة رأي فأدركوه .

فخرجوا في طلبه حتى أدركوه وملكوه . وجاء التاجر وقال لهم : إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه . فقالوا : كلمه . فقال : أيها الملك ، ابتعت غلاما بستمائة درهم ثم أخذوا الغلام والمال . فقال النجاشي : إما أن تعطوه دراهمه وإما أن يضع الغلام يده في يده فليذهبن به حيث شاء . فأعطوه دراهمه ، فهذا معنى قوله . فكان ذلك أول ما علم من عدله ودينه .

قال : ولما مات النجاشي كانوا لا يزالون يرون على قبره نورا .

التالي السابق


الخدمات العلمية