الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 124 ] فصل

                                                                                                                                                                        في كيفية الصلاة

                                                                                                                                                                        أما أقلها ، فأركانها سبعة .

                                                                                                                                                                        الأول : النية ، ووقتها ما سبق في سائر الصلوات . وفي اشتراط الفرضية الخلاف المتقدم ، وهل يشترط التعرض لكونها فرض كفاية ، أم يكفي مطلق الفرض ؟ وجهان . أصحهما الثاني . ثم إن كان الميت واحدا ، نوى الصلاة عليه ، وإن حضر موتى ، نوى الصلاة عليهم ، ولا حاجة إلى تعيين الميت ومعرفته ، بل لو نوى الصلاة على من يصلي عليه الإمام ، جاز ، ولو عين الميت وأخطأ ، لم تصح .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا إذا لم يشر إلى الميت المعين ، فإن أشار ، صح في الأصح . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ويجب على المقتدي نية الاقتداء .

                                                                                                                                                                        الركن الثاني : القيام ، ولا يجزئ عنه القعود مع القدرة على المذهب ، كما سبق في التيمم .

                                                                                                                                                                        الثالث : التكبيرات الأربع ، ولو كبر خمسا ساهيا ، لم تبطل صلاته ، ولا مدخل لسجود السهو في هذه الصلاة . وإن كان عامدا لم تبطل أيضا على الأصح الذي قاله الأكثرون . وقال ابن سريج : الأحاديث الواردة في تكبير الجنازة أربعا ، وخمسا هي من الاختلاف المباح ، والجميع سائغ . ولو كبر إمامه خمسا ، فإن قلنا : الزيادة مبطلة ، فارقه ، وإلا فلا ، ولكن لا يتابعه فيها على الأظهر ، وهل يسلم في الحال ، أم له انتظاره ليسلم معه ؟ وجهان . أصحهما الثاني .

                                                                                                                                                                        [ ص: 125 ] الرابع : السلام ، وفي وجوب نية الخروج معه ، ما سبق في سائر الصلوات ، ولا يكفي : السلام عليك ، على المذهب ، وفيه تردد جواب عن الشيخ أبي علي . الخامس : قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى ، فظاهر كلام الغزالي ، أنه ينبغي أن تكون الفاتحة عقب الأولى متقدمة على الثانية ، لكن حكى الروياني وغيره عن نصه : أنه لو أخر قراءتها إلى التكبيرة الثانية ، جاز .

                                                                                                                                                                        السادس : الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الثانية ، وفي وجوب الصلاة على الآل ، قولان أو وجهان كسائر الصلوات ، وهذه أولى بالمنع .

                                                                                                                                                                        السابع : الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة ، وفيه وجه : أنه لا يجب تخصيص الميت بالدعاء ، بل يكفي إرساله للمؤمنين وقدر الواجب من الدعاء ، ما ينطلق عليه الاسم . وأما الأفضل ، فسيأتي - إن شاء الله تعالى - .

                                                                                                                                                                        وأما أكمل هذه الصلاة ، فلها سنن . منها رفع اليدين في تكبيراتها الأربع ، ويجمع يديه عقب كل تكبيرة ، ويضعهما تحت صدره كباقي الصلوات ، ويؤمن عقب الفاتحة ، ولا يقرأ السورة على المذهب ، ولا دعاء الاستفتاح على الصحيح ، ويتعوذ على الأصح ، ويسر بالقراءة في النهار قطعا ، وكذا في الليل على الصحيح . ونقل المزني في ( المختصر ) : أنه عقب التكبيرة الثانية يحمد الله تعالى ، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ، فهذه ثلاثة أشياء ، أوسطها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي ركن كما تقدم . وأولها ، الحمد ولا خلاف أنه لا يجب ، وفي استحبابه وجهان . أحدهما وهو مقتضى كلام الأكثرين : لا يستحب . والثاني : يستحب ، وجزم به صاحبا ( التتمة ) و ( التهذيب ) .

                                                                                                                                                                        قلت : نقل إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على الأول ، وأن ما نقله المزني غير سديد ، وكذا قال جمهور أصحابنا المصنفين ، ولكن جزم جماعة بالاستحباب ، وهو الأرجح . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        [ ص: 126 ] وأما ثالثها ، وهو الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ، فمستحب عند الجمهور ، وحكى إمام الحرمين فيه ترددا للأئمة .

                                                                                                                                                                        قلت : ولا يشترط ترتيب هذه الثلاثة ، لكنه أولى . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ومن المسنونات : إكثار الدعاء للميت في الثالثة ، ويقول : ( اللهم هذا عبدك ، وابن عبديك ، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحبائه فيها ، إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه ، كان يشهد أن لا إله إلا أنت ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، وأنت أعلم به ، اللهم نزل بك وأنت خير منزول به ، وأصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه ، وقد جئناك راغبين إليك ، شفعاء له ، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه ، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه ، ولقه برحمتك رضاك ، وقه فتنة القبر وعذابه ، وأفسح له في قبره ، وجاف الأرض عن جنبيه ، ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين ) . هذا نص الشافعي في ( المختصر ) . وفيها دعاء آخر ، وعليه أكثر أهل خراسان ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى على جنازة قال : ( اللهم اغفر لحينا وميتنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ) فإن كان الميت امرأة ، قال : ( اللهم هذه أمتك وبنت عبديك ) ويؤنث الكنايات .

                                                                                                                                                                        قلت : ولو ذكرها على إرادة الشخص ، لم يضر . قال البخاري ، وسائر الحفاظ : أصح دعاء الجنازة ، حديث عوف بن مالك في ( صحيح مسلم ) وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة فقال : ( اللهم اغفر له ، وارحمه ، وعافه ، واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله ، وزوجا خيرا من زوجه ، وأدخله الجنة ، وأعذه من عذاب القبر وفتنته ، ومن عذاب النار ) . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        [ ص: 127 ] وإن كان طفلا ، اقتصر على رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - ، ويضم إليه : ( اللهم اجعله فرطا لأبويه ، وسلفا ، وذخرا ، وعظة ، واعتبارا ، وشفيعا ، وثقل به موازينهما ، وأفرغ الصبر على قلوبهما ، ولا تفتنهما بعده ، ولا تحرمهما أجره ) . وأما التكبيرة الرابعة ، فلم يتعرض الشافعي في معظم كتبه لذكر عقبها ، ونقل البويطي عنه أنه يقول بعدها : اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده ) كذا نقل الجمهور عنه ، وهذا الذكر ليس بواجب قطعا ، وهو مستحب على المذهب . وقيل : في استحبابه وجهان . أحدهما : لا يستحب ، بل إن شاء قاله ، وإن شاء تركه .

                                                                                                                                                                        قلت : يسن تطويل الدعاء عقب الرابعة ، وصح ذلك عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        وأما السلام ، فالأظهر أنه يستحب تسليمتان . وقال في ( الإملاء ) : تسليمة يبدأ بها إلى يمينه ، ويختمها ملتفتا إلى يساره ، فيدير وجهه وهو فيها ، هذا نصه . وقيل : يأتي بها تلقاء وجهه بغير التفات . قال إمام الحرمين : ولا شك أن هذا الخلاف في صفة الالتفات يجري في سائر الصلوات إذا قلنا : يقتصر على تسليمة .

                                                                                                                                                                        ثم قيل : القولان هنا في الاقتصار على تسليمة ، هما القولان في الاقتصار في سائر الصلوات . والأصح : أنهما مرتبان عليهما ، إن قلنا هناك بالاقتصار ، فهنا أولى ، وإلا فقولان ، فإن الاقتصار هناك قول قديم ، وهنا هو قوله في ( الإملاء ) ، وهو جديد . وإذا اقتصر على تسليمة ، فهل يقتصر على ( السلام عليكم ) أم يزيد ( ورحمة الله ؟ ) فيه تردد حكاه أبو علي .

                                                                                                                                                                        [ ص: 128 ] فرع

                                                                                                                                                                        المسبوق إذا أدرك الإمام في أثناء هذه الصلاة ، كبر ولم ينتظر تكبيرة الإمام المستقبلة ، ثم يشتغل عقب تكبيره بالفاتحة ، ثم يراعي في الأذكار ترتيب نفسه ، فلو كبر المسبوق ، فكبر الإمام الثانية مع فراغه من الأولى ، كبر مع الثانية ، وسقطت عنه القراءة ، كما لو ركع الإمام في سائر الصلوات عقب تكبيره . ولو كبر الإمام الثانية والمسبوق في أثناء الفاتحة ، فهل يقطع القراءة ويوافقه ، أم يتمها ؟ وجهان كالوجهين فيما إذا ركع الإمام والمسبوق في أثناء الفاتحة ، أصحهما عند الأكثرين : يقطع ويتابعه . وعلى هذا ، هل يتم القراءة بعد التكبيرة لأنه محل القراءة بخلاف الركوع ، أم لا يتم ؟ فيه احتمالان لصاحب ( الشامل ) . أصحهما : الثاني . ومن فاته بعض التكبيرات ، تداركها بعد سلام الإمام ، وهل يقتصر على التكبيرات نسقا بلا ذكر ، أم يأتي بالذكر والدعاء ؟ قولان . أظهرهما : الثاني .

                                                                                                                                                                        قلت : القولان في الوجوب وعدمه ، صرح به صاحب ( البيان ) وهو ظاهر . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ويستحب أن لا ترفع الجنازة ، حتى يتم المسبوقون ما عليهم ، فلو رفعت ، لم تبطل صلاتهم وإن حولت عن القبلة ، بخلاف ابتداء عقد الصلاة ، لا يحتمل فيه ذلك والجنازة حاضرة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو تخلف المقتدي فلم يكبر مع الإمام الثانية أو الثالثة حتى كبر الإمام التكبيرة المستقبلة من غير عذر ، بطلت صلاته كتخلفه بركعة .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية