الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  معلومات الكتاب

                                                                  موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

                                                                  القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

                                                                  بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات :

                                                                  اعلم أن في إسرار الأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء ، وفي الإظهار فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء ، قال " الحسن " : " إن السر أحرز العملين " .

                                                                  [ ص: 240 ] ولكن في الإظهار أيضا فائدة ، ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية فقال : ( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) [ البقرة : 271 ] . والإظهار قسمان :

                                                                  أحدهما : في نفس العمل ، والآخر : بالتحدث بما عمل .

                                                                  القسم الأول : إظهار نفس العمل كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها ، كما روي عن الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من سن سنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه " وتجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيره ، ولكن الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب ، فالسر أفضل من علانية لا قدوة فيها ، أما العلانية للقدوة فأفضل من السر ، ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر الأنبياء بإظهار العمل للاقتداء ، وقوله عليه السلام : " له أجرها وأجر من عمل بها " ، ولكن على من يظهر العمل وظيفتان :

                                                                  إحداهما : أن يظهره حيث يعلم أن يقتدى به أو يظن ظنا ، ورب رجل يقتدي به أهله دون جيرانه ، وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق ، وربما يقتدي به أهل محلته ، وإنما العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة ، فغير العالم إذا أظهر بعض الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق وذموه ولم يقتدوا به فليس له الإظهار من غير فائدة ، وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل القدوة على من هو في محل الاقتداء به .

                                                                  الثانية : أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي فيدعوه إلى الإظهار بعذر الاقتداء وإنما شهوته التجمل بالعمل ، وبكونه مقتدى به ، فليحذر العبد خدع النفس ، فإن النفس خدوع ، والشيطان مترصد ، وحب الجاه على القلب غالب .

                                                                  وقلما تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات ، فلا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيئا ، والسلامة في الإخفاء ، وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا ، فالحذر من الإظهار أولى بنا وبجميع الضعفاء .

                                                                  القسم الثاني : أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ ، وحكمه حكم إظهار العمل نفسه ، والخطر في هذا أشد ; لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان ، وقد تجري في الحكاية زيادة ومبالغة ، وللنفس لذة في إظهار الدعاوى عظيمة إلا أنه لو تطرق إليه الرياء لم يؤثر في إفساد العبادة الماضية بعد الفراغ منها فهو من هذا الوجه أهون ، والحكم فيه أن من قوي قلبه وتم إخلاصه وصغر الناس في عينه واستوى عنده مدحهم وذمهم وذكر ذلك عند من يرجو الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه فهو جائز ، بل مندوب إليه إن صفت النية وسلمت عن جميع الآفات ; لأنه ترغيب في الخير ، والترغيب في الخير خير ، وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من السلف الأقوياء .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية