الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            باب الجهاد

            مسألة : في الرمي بالنشاب على نية الجهاد في سبيل الله هل هو واجب لمطلق الأمر في قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، والقوة مفسرة من النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي أم لا ؟ وإذا لم يكن واجبا فهل الصارف عن ذلك قول من قال من الصحابة : الآية منسوخة ؟ وإذا قلتم : بسنيته فهل ذلك من باب أن الأمر بالوجوب إذا انتفى بطريق ما يبقى الندب ، أو قطع النظر عن الآية بالكلية ؛ لدعوى نسخها ، وأخذت السنية من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .

            الجواب : نقول : مذهبنا أن الرمي بالنشاب على نية التأهب للجهاد سنة لا واجب ولا مباح مستوي الطرفين - هكذا نص عليه الأصحاب ، وإذا نظرنا إلى مقتضى الأدلة من الآية والأحاديث وجدناها تدل على ذلك ولا تتعداه ، وبيان ذلك أن نقول : الأمر في الآية الكريمة له أربعة احتمالات :

            أحدها : أن تكون للإرشاد ، كما في قوله تعالى : ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) ، وهذا الاحتمال ضعيف ؛ لكثرة الأحاديث الواردة في الترغيب في الرمي وترتيب الثواب عليه ، ومثل ذلك لا يكون إلا فيما أمر به على وجه الندب أو الوجوب ، لا على وجه الإرشاد ، كحديث : " تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة " . وحديث : " الرمي سهم من سهام الإسلام " .

            الثاني : أن يكون للندب وهو المدعى ؛ لأنه في صيغة الأمر أظهر من الإرشاد فيها ، وإذا انتفى الوجوب بالطريق الآتي بقي الندب ؛ لأنه القدر المتيقن من صيغة الطلب ، ولا نافي له ، بل الأحاديث الآمرة والمرغبة مثبتة له .

            الثالث : أن يكون للوجوب ، ولا شك أنه بعيد من لفظ الآية ؛ لأن صيغة الأمر لم [ ص: 286 ] تنصب عليه بخصوصه ، إنما انصبت على المستطاع من قوة الصادق بالرمي وبغيره ، كما هو مدلول لفظ " ما " التي موضوعها العموم لغة وشرعا ، وكما ورد بذلك التفسير عن الصحابة ، والتابعين ، أخرج ابن مردويه في تفسيره ، وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب السبق والرمي من طريق الضحاك ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) قال : الرمي والسيوف والسلاح ، وأخرج أبو الشيخ عن مخلد بن يزيد قال : سألت الأوزاعي عن قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) قال : القوة سهم فما فوقه ، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق عباد بن جويرية عن الأوزاعي قال : سألت الزهري عن قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) قال : قال سعيد بن المسيب قال : القوة . الفرس إلى السهم فما دونه .

            وأخرج عن مقاتل بن حيان قال : القوة السلاح ، وما سواه من قوة الجهاد ، وأخرج عن عكرمة قال : القوة . الحصون ، وأخرج عن مجاهد قال : القوة ذكور الخيل .

            وأخرج عن رجاء بن أبي سلمة قال : لقي رجل مجاهدا ، وهو يتجهز إلى الغزو ومعه جوالق ، فقال مجاهد : وهذا من القوة ، فهذه أقوال الصحابة والتابعين صريحة في أن المراد من الآية ما هو أعم من الرمي وغيره ، وأما الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا إن القوة الرمي " فليس المراد منه حصر مدلول الآية فيه ، بل المراد أنه معظم القوة ، وأعظم أنواعها تأثيرا ونفعا على حد قوله : " الحج عرفة " أي : معظم أعمال الحج ، وليس المراد أنه لا ركن للحج سواه كما هو معروف ، وقد فهم هذا الفهم مكحول من التابعين ، فقال في تفسير الآية : الرمي من القوة ، أخرجه ابن المنذر في تفسيره .

            وإذا تقرر ذلك كان القول بوجوب الرمي أخذا من الأمر في الآية ، لا على معنى أنه واجب بعينه ، بل من باب إيجاب شيء لا بعينه ، كما قال الفقهاء في خائف العنت : إنه يجب عليه التعفف ، ولا يقال : إن النكاح في حقه واجب على معنى أنه واجب بعينه ، بل على معنى أن السعي في الإعفاف واجب إما بالنكاح وإما بالتسري ، فإيجاب النكاح عليه من باب إيجاب شيء لا بعينه ، وما كان من هذا القبيل إذا حكم عليه بعينه قيل : إنه سنة ، ولهذا أطلق أصحاب المختصرات قولهم : النكاح سنة لمحتاج إليه يجد أهبته ، وكذلك هنا الواجب إعداد ما ينتفع به في القتال ، ويدفع به العدو ؛ إما الرمي أو غيره ، وإذا حكم على الرمي بعينه قيل : إنه سنة كما صرح به الأصحاب ، فعرف بذلك وجه قولهم : إنه سنة ، وإنه ليس لكون الآية منسوخة ، بل لهذه القاعدة الأصولية التي أشرنا إليها .

            الاحتمال الرابع : أن الأمر قد يكون في الآية ليس لكل الناس ، بل لقوم مخصوصين [ ص: 287 ] وهم المرصدون للجهاد المنزلون في ديوان الفيء ، فيكون واجبا عليهم من حيث أنهم ارتزقوا أموال الفيء على أن يقوموا بدفع الكفار عن المسلمين ، فوجب عليهم السعي في تحصيل ما يحصل به الدفع ، ويؤيد هذا ما ورد : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى أبي عبيدة - علموا غلمانكم العوم ، ومقاتلتكم الرمي - وهذا الوجوب من باب إيجاب ما لا يتم الواجب إلا به ، كإيجاب نصب السلم عند إيجاب صعود السطح ، وليس من باب الوجوب المطلق ، وهو أيضا إذا نظر إليه في حد ذاته ، لم يحكم عليه بخصوصه إلا بالنسبة ، كغسل بعض الرأس والرقبة مع الوجه في الوضوء ، فإنه من باب مقدمة الواجب ، ويطلق عليه الوجوب ؛ لأجل تحقق استيعاب الوجه ، وإذا نظر إليه في حد ذاته كان سنة ؛ لأن الواجب الأصلي في الوضوء غسل الوجه لا بعض الرأس والرقبة ، فاتضح بهذا قول الأصحاب أنه من قسم السنة لا من قسم الواجب ، ولا المباح المستوي الطرفين ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية