الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2 ] سورة الأنبياء 21

                                                                                                                                                                                                                                      نزلت بمكة كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، وفي البحر أنها مكية بلا خلاف وأطلق ذلك فيها ، واستثنى منها في الإتقان قوله تعالى : أفلا يرون أنا نأتي الأرض [الأنبياء : 44] الآية وهي مائة واثنتا عشرة آية في عد الكوفي وإحدى عشرة في عد الباقين كما قاله الطبرسي والداني ، ووجه اتصالها بما قبلها غني عن البيان ، وهي سورة عظيمة فيها موعظة فخيمة فقد أخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر : لا حاجة لي في قطيعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا اقترب للناس [الأنبياء : 1] إلى آخره .

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم اقترب للناس حسابهم روي عن ابن عباس كما قال الإمام ، والقرطبي ، والزمخشري أن المراد بالناس المشركون ويدل عليه ما ستسمعه بعد إن شاء الله من الآيات فإنها ظاهرة في وصف المشركين ، وقال بعض الأجلة : إن ما فيها من قبيل نسبة ما للبعض إلى الكل فلا ينافي كون تعريفه للجنس ، ووجه حسنه ها هنا كون أولئك البعض هم الأكثرون وللأكثر حكم الكل شرعا وعرفا . ومن الناس من جوز إرادة الجنس والضمائر فيما بعد لمشركي أهل مكة وإن لم يتقدم ذكرهم في هذه السورة وليس بأبعد مما سبق ، وقال بعضهم : إن دلالة ما ذكر على التخصيص ليست إلا على تقدير تفسير الأوصاف بما فسروها به ، ويمكن أن يحمل كل منها على معنى يشترك فيه عصاة الموحدين ولا يخفى أن في ذلك ارتكاب خلاف الظاهر جدا ، واللام صلة لاقترب كما هو الظاهر وهي بمعنى إلى أو بمعنى من فإن اقترب افتعل من القرب ضد البعد وهو يتعدى بإلى وبمن ، واقتصر بعضهم على القول بأنها بمعنى إلى فقيل فيه تحكم لحديث تعدي القرب بهما ، وأجيب بأنه يمكن أن يكون ذلك لأن كلا من من وإلى اللتين هما صلتا القرب بمعنى انتهاء الغاية إلا أن إلى عريقة في هذا المعنى ومن عريقة في ابتداء الغاية فلذا أوثر التعبير عن كون اللام المذكورة بمعنى انتهاء الغاية كالتي في قوله تعالى : بأن ربك أوحى لها [الزلزلة : 5] القول بأنها بمعنى إلى واقتصر عليه ، وفي الكشف المعنى على تقدير كونه صلة لاقترب اقترب من الناس لأن معنى الاختصاص وابتداء الغاية كلاهما مستقيم يحصل به الغرض انتهى ، وفيه بحث فإن المفهوم منه أن يكون كلمة من التي يتعدى بها فعل الاقتراب بمعنى ابتداء الغاية وليس كذلك لعدم ملاءمة ذلك المعنى مواقع استعمال تلك الكلمة فالحق أنها بمعنى انتهاء الغاية فإنهم ذكروا أن من يجيء لذلك ، قال الشمني : وفي الجني الداني مثل ابن مالك لانتهاء الغاية بقولهم تقربت منه فإنه مساو لتقربت إليه ، ومما يشهد لذلك أن فعل الاقتراب كما يستعمل بمن يستعمل بإلى ، وقد ذكر في معاني من انتهاء الغاية كما سمعت ولم يذكر أحد في معاني إلى ابتداء الغاية والأصل أن تكون [ ص: 3 ] الصلتان بمعنى فتحمل من على إلى في كون المراد بها الانتهاء وغاية ما يقال في توجيه ذلك أن صاحب الكشف حملها على ابتداء الغاية لأنه أشهر معانيها حتى ذهب بعض النحاة إلى إرجاع سائرها إليه وجعل تعديته بها حملا على ضده المتعدي بها وهو فعل البعد كما أن فعل البيع يعدى بمن حملا له على فعل الشراء المتعدي بها على ما ذكره نجم الأئمة الرضي في بحث الحروف الجارة والمشهور أن ( اقترب ) بمعنى قرب كارتقب بمعنى رقب ، وحكي في البحر أنه أبلغ منه لزيادة مبناه والمراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه وهو الساعة ، ووجه إيثار بيان اقترابه مع أن الكلام مع المشركين المنكرين لأصل بعث الأموات ونفس إحياء العظام الرفات فكان ظاهر ما يقتضيه المقام أن يؤتى بما يفيد أصل الوقوع بدل الاقتراب وأن يسند ذلك إلى نفس الساعة لا إلى الحساب للإشارة إلى أن وقوع القيام وحصول بعث الأجساد والأجسام أمر ظاهر بلا تمويه وشيء واضح لا ريب فيه وأنه وصل في الظهور والجلاء إلى حيث لا يكاد يخفى على العقلاء ، وأن الذي يرخى في بيانه أعنة المقال بعض ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للاضطراب بل نفس وقوع الحساب أيضا غني عن البيان لا ينبغي أن ترتاب فيه العقول والأذهان وأن الذي قصد بيانه ههنا أنه دنا أوانه واقترب زمانه فيكون الكلام مفصحا عن تحقق القيام الذي هو مقتضى المقام على وجه وجيه أكيد ونهج بديع سديد لا يخفى لطفه على من ألقى السمع وهو شهيد .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون الكلام مع المشركين السائلين عن زمان الساعة المستعجلين لها استهزاء كما في قوله تعالى فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا [الإسراء : 51] فحينئذ يكون الإخبار عن الاقتراب على مقتضى الظاهر ، وإيثار بيان اقتراب الحساب على بيان اقتراب سائر وقوع مستتبعات البعث كفنون العذاب وشجون العقاب للإشعار بأن مجرد اقتراب الحساب الذي هو من مبادي العذاب ومقدماته كاف في التحذير عما هم عليه من الإنكار وواف بالردع عما هم عليه من العلو والاستكبار فكيف الحال في نفس العذاب والنكال .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر شيخ الإسلام مولانا أبو السعود عليه الرحمة أن إسناد ذلك إلى الحساب لا إلى الساعة لانسياق الكلام إلى بيان غفلتهم عنه وإعراضهم عما يذكرهم إياه وفيه ما فيه ، ثم الوجه اللائح في النظر الجليل لإسناد الاقتراب إلى الحساب دون الناس مع جواز العكس هو أن الاقتراب إذا حصل بين شيئين يسند إلى ما هو مقبل على الآخر متحرك ومتوجه إلى جهته حقيقة أو حكما حتى أنه لو كان كل منهما متوجها إلى الآخر يصح إلى كل منهما ، وقد سمعت أن المراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه ، وقد صرح به أجلة المفسرين ، وأنت خبير بأن الشائع المستفيض اعتبار الوجه والإتيان من الزمان إلى ذي الزمان لا بالعكس فلذلك يوصف الزمان بالمضي والاستقبال فكان الجدير أن يسند الاقتراب إلى زمان الحساب ويجعل الناس مدنوا إليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر شيخ الإسلام أن في هذا الإسناد من تفخيم شأن المسند إليه وتهويل أمره ما لا يخفى لما فيه من تصوير ذلك بصورة شيء مقبل عليهم لا يزال يطلبهم فيصيبهم لا محالة انتهى ، وهو معنى زائد على ما ذكرنا لا يخفى لطفه على الناقد البصير واليلمعي الخبير ، والمراد من اقتراب ذلك من الناس على ما اختاره الشيخ قدس سره دنوه منهم بعد بعده عنهم فإنه في كل ساعة يكون أقرب إليهم منه في الساعة السابقة ، واعترض قول الزمخشري المراد من ذلك كون الباقي من مدة الدنيا أقل وأقصر مما مضى منها فإنه كصبابة الإناء ودردي الوعاء بأنه لا تعلق له بما نحن فيه من الاقتراب المستفاد من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق معناه . نعم قد يفهم منه [ ص: 4 ] عرفا كونه قريبا في نفسه أيضا فيصار حينئذ إلى هذا التوجيه وتعقبه بعض الأفاضل بأن القول بعدم التعلق بالاقتراب المستفاد من صيغة الماضي خارج عن دائرة الإنصاف فإنه إن أراد أنه لا تعلق له بالحدوث المستفاد منها فلا وجه له إذ الاقتراب بالمعنى المذكور أمر حدث بمضي الأكثر من مدة الدنيا وإن أراد أنه لا تعلق له بالمضي المستفاد منها فلا وجه له أيضا إذ الدلائل دلت على حصول هذا الاقتراب حين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم الموعود في آخر الزمان المتقدم على نزول الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال : فليت شعري ما معنى عدم تعلقه بما نحن فيه بل ربما يمكن أن يدعي عدم المناسبة في المعنى الذي اختاره نفسه فإن الاقتراب بذلك المعنى مستمر من أول بدء الدنيا إلى يوم نزول الآية بل إلى ما بعد فالذي يناسبه هو الصيغة المنبئة عن الاستمرار والدوام ، ثم لا يخفى على أصحاب الأفهام أن هذا المعنى الذي اعترضه أنسب بما هو مقتضى المقام من إخافة الكفرة اللئام المرتابين في أمر القيام لما فيه من بيان قربه الواقع في نفس الأمر أ.ه. فتدبر، وقيل المراد اقتراب ذلك عند الله تعالى ، وتعقب بأنه لا عند الله عز وجل إذ لا نسبة للكائنات إليه عز وجل بالقرب والبعد .

                                                                                                                                                                                                                                      ورد بأنه غفلة أو تغافل عن المراد فإن المراد من عند الله في علمه الأزلي أو في حكمه وتقديره لا الدنو والاقتراب المعروف ، وعلى هذا يكون المراد من القرب تحققه في علمه تعالى أو تقديره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض الأفاضل : ليس المراد من كون القرب عند الله تعالى نسبته إليه سبحانه بأن يجعل هو عز وجل مدنوا منه ومقربا إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا بل المراد قرب الحساب للناس عند الله تعالى ، وحاصله أنه تعالى شأنه لبلوغ تأنيه إلى حد الكمال يستقصر المدد الطوال فيكون الحساب قريبا من الناس عند جنابه المتعال وإن كان بينه وبينهم أعوام وأحوال ، وعلى هذا يحمل قوله تعالى : يرونه بعيدا ونراه قريبا [المعارج : 6 ، 7] وهذا المعنى يفيد وراء إفادته تحقق الثبوت لا محالة أن المدة الباقية بينهم وبين الحساب شيء قليل في الحقيقة وما عليه الناس من استطالته واستكثاره فمن التسويلات الشيطانية وأن اللائق بأصحاب البصيرة أن يعدوا تلك المدة قصيرة فيشمروا الذيل ليوم يكشف فيه عن ساق ويكون إلى الله تعالى شأنه المساق ، وقول شيخ الإسلام في الاعتراض على ما قيل إنه لا سبيل إلى اعتباره ها هنا لأن قربه بالنسبة إليه تعالى مما لا يتصور فيه التجدد والتفاوت حتما وإنما اعتباره في قوله تعالى لعل الساعة قريب [الشورى : 17] ونظائره مما لا دلالة فيه على الحدوث مبني على حمل القرب عنده تعالى على القرب إليه تعالى بمعنى حضور ذلك في علمه الأزلي فإنه الذي لا يجري فيه التفاوت حتما وأما قرب الأشياء بعضها إلى بعض زمانا أو مكانا فلا ريب أنه يتجدد تعلقات علمه سبحانه بذلك فيعلمه على ما هو عليه مع كون صفة العلم نفسها قديمة على ما تقرر في موضعه اهـ . واختار بعضهم أن المراد بالعندية ما سمعته أولا وهو معنى شائع في الاستعمال وجعل التجدد باعتبار التعلق كما قيل بذلك في قوله تعالى : ثم بعثناهم لنعلم [الكهف : 12] الآية ، وقيل المراد من اقترابه تحقق وقوعه لا محالة فإن كل آت قريب والبعيد ما وقع ومضى ولذا قيل :


                                                                                                                                                                                                                                      فلا زال ما تهواه أقرب من غد ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس



                                                                                                                                                                                                                                      ولا بد أن يراد من تحقق وقوعه تحققه في نفسه لا تحققه في العلم الأزلي ليغاير القول السابق . وبعض الأفاضل قال : إنه على هذا الوجه عدم تعلقه بالاقتراب المستفاد من صيغة الماضي إلا أن يصار إلى القول بتجرد الصيغة عن الدلالة على الحدوث كما في قولهم : سبحان من تقدس عن الأنداد وتنزه عن الأضداد فتأمل ولا تغفل .

                                                                                                                                                                                                                                      وتقديم الجار والمجرور على الفاعل كما صرح به شيخ الإسلام للمسارعة إلى إدخال الروعة فإن نسبة الاقتراب [ ص: 5 ] إلى المشركين من أول الأمر يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجا من المقترب ، واعترض بأن هؤلاء المشركين لا يحصل لهم الترويع والانزعاج لما ستسمع من غفلتهم وإعراضهم وعدم اعتدادهم بالآيات النازلة عليهم فكيف يتأتى تعجيل المساءة ، وأجيب بأن ذلك لا يقتضي أن لا يزعجهم الإنذار والتذكير ولا يروعهم التخويف والتحذير لجواز أن يختلج في ذهنهم احتمال الصدق ولو مرجوحا فيحصل لهم الخوف والإشفاق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأيد بما ذكره بعض المفسرين من أنه لما نزلت اقتربت الساعة [القمر : 1] قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئا فنزلت اقترب للناس حسابهم فأشفقوا فانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم في بيان ذلك : إن الاقتراب منبئ عن التوجه والإقبال نحو شيء فإذا قيل اقترب أشعر أن هناك أمرا مقبلا على شيء طالبا له من غير دلالة على خصوصية المقترب منه فإذا قيل بعد ذلك ( للناس ) دل على أن ذلك الأمر طالب لهم مقبل عليهم وهم هاربون منه فأفاد أن المقترب مما يسوؤهم فيحصل لهم الخوف والاضطراب قبل ذكر الحساب بخلاف ما إذا قيل اقترب الحساب للناس فإن كون إقبال الحساب نحوهم لا يفهم على ذلك التقدير إلا بعد ذكر للناس فتحقق فائدة التعجيل في التقديم مما لا شبهة فيه بل فيه فائدة زائدة وهي ذهاب الوهم في تعيين ذلك الأمر الهائل إلى كل مذهب إلى أن يذكر الفاعل ، ويمكن أيضا أن يقال في وجه تعجيل التهويل : إن جريان عادته الكريمة صلى الله عليه وسلم على إنذار المشركين وتحذيرهم وبيان ما يزعجهم يدل على أن ما بين اقترابه منهم شيء سيئ هائل فإذا قدم الجار يحصل التخويف حيث يعلم من أول الأمر أن الكلام في حق المشركين الجاري عادته الكريمة عليه الصلاة والسلام على تحذيرهم بخلاف ما إذا قدم الفاعل حيث لا يعلم المقترب منه إلى أن يذكر الجار والمجرور والقرينة المذكورة لا تدل على تعيين المقترب كما تدل على تعيين المقترب إذ من المعلوم من عادته الكريمة صلى الله عليه وسلم أنه إذا تكلم في شأنهم يتكلم غالبا بما يسوؤهم لا أنه عليه الصلاة والسلام يتكلم في غالب أحواله بما يسوؤهم وفرق بين العادتين ، ولا يقدح في تمامية المرام توقف تحقق نكتة التقديم على ضم ضميمة العادة إذ يتم المراد بأن يكون للتقديم مدخل في حصول تلك النكتة بحيث لو فات التقديم لفاتت النكتة ، وقد عرفت أن الأمر كذلك وليس في كلام الشيخ قدس سره ما يدل على أن المسارعة المذكورة حاصلة من التقديم وحده كذا قيل . ولك أن تقول : التقديم لتعجيل التخويف ولا ينافي ذلك عدم حصوله كما لا ينافي عدم حصول التخويف كون إنزال الآيات للتخويف فافهم ، وجوز الزمخشري كون اللام تأكيدا لإضافة الحساب إليهم قال في الكشف : فالأصل اقترب حساب الناس لأن المقترب منه معلوم ثم اقترب للناس الحساب على أنه ظرف مستقر مقدم لا أنه يحتاج إلى مضاف مقدر حذف لأن المتأخر مفسر أي اقترب الحساب للناس الحساب كما زعم الطيبي وفي التقديم والتصريح باللام وتعريف الحساب مبالغات ليست في الأصل ثم اقترب للناس حسابهم فصارت اللام مؤكدة لمعنى الاختصاص الإضافي لا لمجرد التأكيد كما في لا أبا له وما ثني فيه الظرف من نحو فيك زيد راغب فيك انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وادعى الزمخشري أن هذا الوجه أغرب بناء على أن فيه مبالغات ونكتا ليست في الوجه الأول وادعى شيخ الإسلام أنه مع كونه تعسفا تاما بمعزل عما يقتضيه المقام ، وبحث فيه أيضا أبو حيان وغيره ومن الناس من انتصر له وذب عنه ، وبالجملة للعلماء في ذلك مناظرة عظمى ومعركة كبرى ، والأولى بعد كل حساب جعل [ ص: 6 ] اللام صلة الاقتراب هذا ، واستدل بالآية على ثبوت الحساب ، وذكر البيضاوي في تفسير قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [البقرة : 284] أن المعتزلة والخوارج ينكرونه ويعضده ما ذكره الإمام النسفي في بعض مؤلفاته حيث قال : قالت المعتزلة لا ميزان ولا حساب ولا صراط ولا حوض ولا شفاعة وكل موضع ذكر الله تعالى فيه الميزان أو الحساب أراد سبحانه به العدل انتهى . لكن المذكور في عامة المعتبرات الكلامية أن أكثرهم ينفي الصراط وجميعهم ينفي الميزان ولم يتعرض فيه لنفيهم الحساب ، والحق أن الحساب بمعنى المجازاة مما لا ينكره إلا المشركون وهم في غفلة أي في غفلة عظيمة وجهالة فخيمة عنه ، وقيل الأولى التعميم أي في غفلة تامة وجهالة عامة من توحيده تعالى والإيمان بكتبه ورسله عليهم السلام ووقوع الحساب ووجود الثواب والعقاب وسائر ما جاء به النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم ، وذكر غفلتهم عن ذلك عقيب بيان اقتراب الحساب لا يقتضي قصر الغفلة عليه فإن وقوع تأسفهم وندامتهم وظهور أثر جهلهم وحماقتهم لما كان مما يقع في يوم الحساب كان سببا للتعقيب المذكور انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يقال : إن ظاهر التعقيب يقتضي ذلك ، ومن غفل عن مجازاة الله تعالى له المراد من الحساب صدر منه كل ضلالة وركب متن كل جهالة والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا - لهم - وقوله سبحانه : معرضون أي عن الآيات والنذر الناطقة بذلك الداعية إلى الإيمان به المنجي من المهالك خبر بعد خبر ، واجتماع الغفلة والإعراض على ما أشرنا إليه مما لا غبار عليه ، وللإشارة إلى تمكنهم في الغفلة التي هي منشأ الإعراض المستمر جيء بالكلام على ما سمعت ، والجملة في موضع الحال من الناس ، وقال الزمخشري : وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسيء ولذا إذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا إلى آخر ما قال .

                                                                                                                                                                                                                                      وحاصله يتضمن دفع التنافي بين الغفلة التي هي عدم التنبه والإعراض الذي يكون من المتنبه بأن الغفلة عن الحساب في أول أمرهم والإعراض بعد قرع عصا الإنذار أو بأن الغفلة عن الحساب والإعراض عن التفكر في عاقبتهم وأمر خاتمتهم ، وفي الكشف أراد أن حالهم المستمرة الغفلة عن مقتضى الأدلة العقلية ثم إذا عاضدتها الأدلة السمعية وأرشدوا لطريق النظر أعرضوا ، وفيه بيان فائدة إيراد الأول جملة ظرفية لما في حرف الظرف من الدلالة على التمكن وإيراد الثاني وصفا منتقلا دالا على نوع تجدد ، ومنه يظهر ضعف الحمل على أن الظرفية حال من الضمير المستكن في ( معرضون ) قدمت عليه انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى أن القول باقتضاء العقول أنه لا بد من الجزاء لا يتسنى إلا على القول بالحسن والقبح العقليين والأشاعرة ينكرون ذلك أشد الإنكار ، وقال بعض الأفاضل : يمكن أن يحمل الإعراض على الاتساع كما في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      عطاء فتى تمكن في المعالي     واعرض في المعالي واستطالا



                                                                                                                                                                                                                                      وذكره بعض المفسرين في قوله تعالى : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم [الإسراء : 67] فيكون المعنى وهم متسعون في الغفلة مفرطون فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      ويمكن أيضا أن يراد بالغفلة معنى الإهمال كما في قوله تعالى : وما كنا عن الخلق غافلين [المؤمنون : 17] فلا تنافي بين الوصفين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية