الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في صيد الكلب المعلم والبازي ونحوهما 3613 - ( عن أبي ثعلبة الخشني قال { : قلت : يا رسول الله أنا بأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي المعلم ، وبكلبي الذي ليس بمعلم فما يصلح لي ؟ فقال : ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه . فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل } ) .

                                                                                                                                            3614 - ( وعن عدي بن حاتم قال { : قلت : يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم الله ، قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك ، قلت : وإن قتلن قال : وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها ، قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيد ، قال : إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله } وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه ، فإذا أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه ، [ ص: 148 ] وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاة } متفق عليهن وهو دليل على الإباحة سواء قتله الكلب جرحا أو خنقا ) .

                                                                                                                                            3615 - ( وعن عدي بن حاتم { أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك ، قلت : وإن قتل ؟ قال : وإن قتل ولم يأكل منه شيئا فإنما أمسكه عليك } رواه أحمد وأبو داود ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث عدي بن حاتم الآخر أخرجه أيضا البيهقي وهو من رواية مجالد عن الشعبي عنه ، قال البيهقي : تفرد مجالد بذكر الباز فيه وخالف الحفاظ . قوله : ( ما صدت بقوسك ) سيأتي الكلام على الصيد بالقوس . قوله : ( وما صدت بكلبك المعلم ) المراد بالمعلم الذي إذا أغراه صاحبه على الصيد طلبه ، وإذا زجره انزجر ، وإذا أخذ الصيد حبسه على صاحبه ، وفي اشتراط الثالث خلاف . واختلف متى يعلم ذلك منها ، فقال البغوي في التهذيب : أقله ثلاث مرات ، وعن أبي حنيفة وأحمد يكفي مرتين . وقال الرافعي : لا تقدير لاضطراب العرف واختلاف طباع الجوارح فصار المرجع إلى العرف .

                                                                                                                                            قوله : ( فذكرت اسم الله عليه ) فيه اشتراط التسمية ، وسيأتي الكلام عليه . وأحاديث الباب تدل على إباحة الصيد بالكلاب المعلمة ، وإليه ذهب الجمهور من غير تقييد ، واستثنى أحمد وإسحاق الأسود وقالا : لا يحل الصيد به لأنه شيطان . ونقل عن الحسن وإبراهيم وقتادة نحو ذلك . قوله : ( فكل ما أمسك عليك ) فيه جواز أكل ما أمسكه الكلب بالشروط المذكورة في الأحاديث وهو مجمع عليه . قوله : ( ما لم يشركها كلب ليس معها ) فيه دليل على أنه لا يحل أكل ما يشاركه كلب آخر في اصطياده ومحله ما إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الذكاة ، فإن تحقق أنه أرسله من هو من أهل الذكاة حل ثم ينظر فإن كان إرسالهما معا فهو لهما وإلا فللأول .

                                                                                                                                            ويؤخذ ذلك من التعليل في قوله : { فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره } فإنه يفهم منه أن المرسل لو سمى على الكلب لحل . ووقع في رواية بيان عن الشعبي { وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل } فيؤخذ منه أنه لو وجده حيا وفيه حياة مستقرة فذكاه حل ، لأن الاعتماد في الإباحة على التذكية لا على إمساك الكلب ، ويؤيده ما في حديث الباب { وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل } .

                                                                                                                                            قوله : ( بالمعراض ) بكسر الميم وسكون المهملة وآخره معجمة . قال الخليل وتبعه جماعة : هو سهم لا ريش له ولا نصل . وقال ابن دريد وتبعه ابن سيده : هو سهم طويل له أربع قذذ رقاقا فإذا رمى به اعترض . وقال الخطابي : المعراض : نصل [ ص: 149 ] عريض له ثقل ورزانة ، وقيل عود رقيق الطرفين غليظ الوسط ، وقيل : خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها وقد لا يحدد ، وقوى هذا الأخير النووي تبعا لعياض . وقال القرطبي : إنه مشهور . وقال ابن التين : المعراض : عصا في طرفها حديدة يرمي بها الصائد فما أصاب بحده فهو ذكي فيؤكل ، وما أصاب بغير حده فهو وقيذ

                                                                                                                                            قوله : ( فخزق ) بفتح الخاء المعجمة والزاي بعدها قاف : أي نفذ ، يقال : سهم خازق : أي نافذ ، ويقال بالسين المهملة بدل الزاي ، وقيل الخزق بالزاي وقد تبدل سينا : الخدش . قال في الفتح : وحاصله أن السهم وما في معناه إذا أصاب الصيد حل وكانت تلك ذكاته ، وإذا أصاب بعرضه لم يحل لأنه في معنى الخشبة الثقيلة أو الحجر ونحو ذلك من المثقل . قوله : ( بعرضه ) بفتح العين المهملة : أي بغير طرفه المحدد وهو حجة للجمهور في التفصيل المذكور .

                                                                                                                                            وعن الأوزاعي وغيره من فقهاء الشام يحل مطلقا ، وسيأتي لهذا زيادة بسط - إن شاء الله - قوله : ( ولم يأكل منه ) فيه دليل على تحريم ما أكل منه الكلب من الصيد ولو كان الكلب معلما . وقد علل في الحديث بالخوف من أنه إنما أمسك على نفسه ، وهذا قول الجمهور . وقال مالك وهو قول الشافعي في القديم ، ونقل عن بعض الصحابة أنه يحل . واحتجوا بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن أعرابيا يقال له : أبو ثعلبة قال : يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها ، فقال : كل مما أمسك عليك وإن أكل منه } أخرجه أبو داود . قال الحافظ : ولا بأس بإسناده ، وسيأتي هذا الحديث في الباب الذي بعد هذا . قال : وسلك الناس في الجمع بين الحديثين طرقا منها للقائلين بالتحريم : الأولى حمل حديث الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه . والثانية الترجيح . فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غير الصحيحين ومختلف في تضعيفها ، وأيضا فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم وهو خوف الإمساك على نفسه متأيدة بأن الأصل في الميتة التحريم ، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل ولظاهر القرآن أيضا وهو قوله تعالى: { فكلوا مما أمسكن عليكم } فإن مقتضاها أن الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح ، ويتقوى أيضا بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد { إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ، فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل فكل فإنما أمسك على صاحبه } وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع نحوه بمعناه ، ولو كان مجرد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة " عليكم " في الآية .

                                                                                                                                            وأما القائلون بالإباحة فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه . وحديث الأعرابي على بيان الجواز . قال بعضهم : ومناسبة ذلك أن عديا كان موسرا فاختير له الحمل على الأولى ، بخلاف أبي ثعلبة فإنه كان بعكسه ، ولا يخفى [ ص: 150 ] ضعف هذا التمسك مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه . وقال ابن التين : قال بعض أصحابنا : هو عام فيحمل على الذي أدركه ميتا من شدة العدو أو من الصدمة فأكل منه لأنه صار على صفة لا يتعلق بها الإرسال والإمساك على صاحبه .

                                                                                                                                            قال : ويحتمل أن يكون معنى قوله : " فإن أكل فلا تأكل " أن لا يوجد منه غير الأكل دون إرسال الصائد له ، وتكون هذه الجملة مقطوعة عما قبلها ، ولا يخفى تعسف هذا وبعده . وقال ابن القصار : مجرد إرسالنا الكلب إمساك علينا ; لأن الكلب لا نية له وإنما يتصيد بالتعليم ، فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا أو على نفسه ، واختلف الحكم في ذلك وجب أن يتميز ذلك بنية من له نية وهو مرسله ، فإذا أرسله فقد أمسك عليه ، وإذا لم يرسله فلم يمسك عليه ، كذا قال . ولا يخفى بعده ومصادمته لسياق الحديث . وقد قال الجمهور : إن معنى قوله : { أمسكن عليكم } صدن لكم ، وقد جعل الشارع أكله منه علامة على أنه أمسك لنفسه لا لصاحبه . فلا يعدل عن ذلك .

                                                                                                                                            وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة { إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلم ما علمته } وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله دل على أنه ليس يعلم التعليم المشترط ، وسلك بعض المالكية الترجيح فقال : هذه القطعة ذكرها الشعبي ولم يذكرها همام ، وعارضها حديث الأعرابي المعروف بأبي ثعلبة . قال الحافظ : وهذا ترجيح مردود لما تقدم ، وتمسك بعضهم بأن الإجماع على جواز أكله إذا أخذه الكلب بفيه وهم بأكله فأدركه قبل أن يأكل منه ، يدل على أنه يحل ما أكل منه ، لأن تناوله بفيه وشروعه في أكله مثل الأكل في أن كل واحد منهما يدل على أنه إنما أمسكه على نفسه قوله : ( فإن أخذ الكلب ذكاة ) فيه دليل على أن إمساك الكلب للصيد بمنزلة التذكية إذا لم يدركه الصائد إلا بعد الموت لا إذا أدركه قبل الموت ، فالتذكية واجبة لقوله في الحديث : { فإن أدركته حيا فاذبحه } قوله : ( فكل ما أمسك عليك ) استدل به على أنه لو أرسل كلبه على صيد فاصطاد غيره حل للعموم الذي في قوله : " ما أمسك عليك " وهذا قول الجمهور .

                                                                                                                                            وقال مالك : لا يحل وهو رواية البويطي عن الشافعي . .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية