الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سفر نائب السلطنة إلى الديار المصرية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما كانت ليلة الحادي والعشرين من المحرم قدم طشتمر دوادار يلبغا على البريد ، فنزل بدار السعادة ، ثم ركب هو ونائب السلطنة بعد العشاء الأخيرة في المشاعل ، والحجبة بين أيديهما ، والخلائق يدعون لنائبهم ، واستمروا كذلك ذاهبين إلى الديار المصرية ، فأكرمه يلبغا وأنعم عليه ، وسأله أن يكون ببلاد حلب ، فأجابه إلى ذلك ، وعاد فنزل بدار سنجر الإسماعيلي ، وارتحل منها إلى حلب ، وقد اجتمعت به هنالك ، وتأسف الناس عليه ، وناب في الغيبة الأمير [ ص: 721 ] سيف الدين زبالة ، إلى أن قدم النائب المعز السيفي أقتمر عبد الغني ، على ما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتوفي القاضي شمس الدين بن منصور الحنفي الذي كان نائب الحكم - رحمه الله - يوم السبت السادس والعشرين من المحرم ، ودفن بالباب الصغير ، وقد قارب الثمانين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا اليوم أو الذي بعده توفي القاضي شهاب الدين أحمد بن الوزوازة ، ناظر الأوقاف بالصالحية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صبيحة يوم الجمعة ثالث صفر نودي في البلد أن لا يتخلف أحد من أجناد الحلقة عن النفير إلى بيروت ، فاجتمع الناس لذلك ، فبادر الناس والجيش ملبسين إلى سطح المزة ، وخرج ملك الأمراء أمير علي - نائب الشام - من داره داخل باب الجابية في جماعته ملبسين في هيئة حسنة ، وتجمل هائل ، وولده الأمير ناصر الدين محمد ، وطلبه معه ، وقد جاء نائب الغيبة والحجبة إلى بين يديه إلى وطاقه ، وشاوروه في الأمر ، فقال : ليس لي هاهنا أمر ، ولكن إذا حضر الحرب والقتال ، فلي هناك أمر . وخرج خلق من الناس متبرعين ، وخطب قاضي القضاة تاج الدين الشافعي بالناس يوم الجمعة على العادة ، وحرض الناس على الجهاد ، وقد ألبس جماعة من غلمانه اللأمة والخوذ ، وهو على عزم المسير مع الناس إلى بيروت ، ولله الحمد والمنة . ولما كان من آخر النهار رجع الناس إلى منازلهم ، وقد ورد الخبر بأن المراكب التي رئيت في البحر إنما هي مراكب تجار لا مراكب قتال ، [ ص: 722 ] فطابت قلوب الناس ، ولكن ظهر منهم استعداد عظيم ، ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ليلة الأحد خامس صفر قدم بالأمير سيف الدين شرشي - الذي كان إلى آخر وقت نائب حلب - محتاطا عليه بعد العشاء الآخرة إلى دار السعادة بدمشق ، فسير معزولا عن حلب إلى طرابلس بطالا ، وبعث في سرجين صحبة الأمير علاء الدين بن صبح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبلغنا وفاة الشيخ جمال الدين بن نباتة حامل لواء شعراء زمانه بديار مصر بمرستان الملك المنصور قلاوون ، وذلك يوم الثلاثاء سابع صفر من هذه السنة ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ليلة ثامنه هرب أهل حبس السد من سجنهم ، وخرج أكثرهم ، فأرسل الولاة صبيحة يومئذ في إثرهم ، فمسك كثير ممن هرب ، فضربوهم أشد الضرب ، وردوهم إلى شر المنقلب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأربعاء خامس عشره نودي بالبلدان أن لا يعامل الفرنج البنادقة ، والجنوية ، والكنبلان ، واجتمعت في آخر هذا اليوم بالأمير زين الدين زبالة نائب الغيبة النازل بدار الذهب ، فأخبرني أن البريدي أخبره أن صاحب قبرس رأى في النجوم أن قبرس مأخوذة ، فجهز مركبين من الأسرى الذين عنده من [ ص: 723 ] المسلمين إلى يلبغا ، ونادى في بلاده أن من كتم مسلما صغيرا أو كبيرا قتل ، وكان من عزمه أن لا يبقي أحدا من الأسارى إلا أرسله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي آخر نهار الأربعاء خامس عشره قدم من الديار المصرية قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي المالكي الذي كان قاضي المالكية ، فعزل في أواخر رمضان من العام الماضي ، فحج ، ثم قصد الديار المصرية فدخلها لعله يستغيث ، فلم يصادفه قبول ، فادعى عليه بعض الحجاب ، وحصل له ما يسوؤه ، ثم خرج إلى الشام ، فجاء فنزل في التربة الكاملية شمالي الجامع ، ثم انتقل إلى منزل ابنته متمرضا ، والطلابات والدعاوى والمصالحات عنه كثيرة جدا ، فأحسن الله عاقبته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأحد بعد العصر دخل الأمير سيف الدين طيبغا الطويل من القدس الشريف إلى دمشق ، فنزل بالقصر الأبلق ، ورحل بعد يومين أو ثلاثة إلى نيابة حماة - حرسها الله تعالى - بتقليد من الديار المصرية ، وجاءت الأخبار بتولية الأمير سيف الدين منكلي بغا نيابة حلب عوضا عن نيابة دمشق ، وأنه حصل له من التشريف ، والتكريم ، والتشاريف بديار مصر شيء كثير ، ومال جزيل ، وخيول ، وأقمشة ، وتحف يشق حصرها ، وأنه قد استقر بدمشق الأمير سيف الدين أقتمر عبد الغني الذي كان حاجب الحجاب بمصر ، وعوض عنه في الحجوبية الأمير علاء الدين طيبغا أستاذ دار يلبغا ، وخلع على الثلاثة في يوم واحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأحد حادي عشر ربيع الأول اشتهر في البلد قضية الفرنج أيضا بمدينة الإسكندرية ، وقدم بريدي من الديار المصرية بذلك ، واحتيط على من [ ص: 724 ] كان بدمشق من الفرنج ، وسجنوا بالقلعة ، وأخذت حواصلهم ، وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين الشافعي يومئذ أن أصل ذلك أن سبعة مراكب من التجار من البنادقة من الفرنج قدموا إلى الإسكندرية فباعوا بها واشتروا ، وبلغ الخبر إلى الأمير الكبير يلبغا أن مركبا من هذه السبعة لصاحب قبرس ، فأرسل إلى الفرنج يقول لهم أن يسلموا هذه المركب ، فامتنعوا من ذلك ، وبادروا إلى مراكبهم ، فأرسل في آثارهم ستة شوان مشحونة بالمقاتلة ، فالتقوا هم والفرنج في البحر ، فقتل من الفريقين خلق ، ولكن من الفرنج أكثر ، وهربوا فارين بما معهم من البضائع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فجاء الأمير علي الذي كان نائب دمشق أيضا في جيش مبارك ، ومعه ولده ومماليكه في تجمل هائل ، فرجع الأمير علي ، واستمر نائب السلطنة حتى وقف على بيروت ، ونظر في أمرها وعاد سريعا . وقد بلغني أن الفرنج جاءوا طرابلس غزاة ، وأخذوا مركبا للمسلمين من المينا وحرقوه ، والناس ينظرون ولا يستطيعون دفعهم ، ولا منعهم ، وأن الفرنج كروا راجعين ، وقد أسروا ثلاثة من المسلمين ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . انتهى ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية