الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3175 ) فصل : واختلفت الرواية في بيع رباع مكة وإجارة دورها ، فروي أن ذلك غير جائز . وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأبي عبيد . وكره إسحاق ; لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { في مكة : لا تباع رباعها ، ولا تكرى بيوتها } . رواه الأثرم بإسناده . وعن مجاهد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : مكة حرام بيع رباعها ، حرام إجارتها . } وهذا نص رواه سعيد بن منصور ، في " سننه " . وروي أنها كانت تدعى السوائب ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره مسدد في " مسنده " ، ولأنها فتحت عنوة ، ولم تقسم ، فكانت موقوفة ، فلم يجز بيعها ، كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة ، ولم يقسموها ، والدليل على أنها فتحت عنوة ، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وأنها لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار . } متفق عليه وروت أم هانئ قالت { : أجرت حموين لي ، فأراد علي أخي قتلهما ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إني أجرت حموين لي ، فزعم ابن أمي علي أنه قاتلهما . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت ، أو أمنا من أمنت يا أم هانئ . } متفق عليه ، ولذلك { أمر النبي صلى الله عليه وسلم : بقتل أربعة فقتل منهم ابن خطل ، ومقيس بن صبابة } ، وهذا يدل على أنها فتحت عنوة . والرواية الثانية ، أنه يجوز بيع رباعها ، وإجارة بيوتها .

                                                                                                                                            وروي ذلك عن طاوس وعمرو بن دينار . وهذا قول الشافعي وابن المنذر . وهو أظهر في الحجة ; لأن { النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له : أين ننزل غدا ؟ قال : وهل ترك لنا عقيل من رباع ؟ } متفق عليه . يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب ; لأنه ورثه دون إخوته ; لكونه كان على دينه دونهما ، فلو كانت غير مملوكة ، لما أثر بيع عقيل ، شيئا ، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت لهم دور بمكة لأبي بكر والزبير وحكيم بن حزام وأبي سفيان ، وسائر أهل مكة ، فمنهم من باع ، ومنهم من ترك داره ، فهي في يد أعقابهم .

                                                                                                                                            وقد باع حكيم بن حزام دار الندوة ، فقال ابن الزبير : بعت مكرمة قريش . فقال : يا ابن أخي ، ذهبت المكارم إلا التقوى . أو كما قال . واشترى معاوية دارين . واشترى عمر دار السجن من صفوان بن أمية ، بأربعة آلاف .

                                                                                                                                            ولم يزل أهل مكة يتصرفون في دورهم تصرف الملاك ، بالبيع وغيره ، ولم ينكره منكر ، فكان إجماعا ، وقد قرره النبي صلى الله عليه وسلم بنسبة [ ص: 178 ] دورهم إليهم ، فقال { : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن } . وأقرهم في دورهم ورباعهم ، ولم ينقل أحدا عن داره ، ولا وجد منه ما يدل على زوال أملاكهم ، وكذلك من بعده من الخلفاء ، حتى إن عمر رضي الله عنه مع شدته في الحق ، لما احتاج إلى دار السجن ، لم يأخذها إلا بالبيع . ولأنها أرض حية لم يرد عليها صدقة محرمة ; فجاز بيعها كسائر الأرض ، وما روي من الأحاديث في خلاف هذا ، فهو ضعيف .

                                                                                                                                            وأما كونها فتحت عنوة ، فهو الصحيح ، الذي لا يمكن دفعه ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهلها فيها على أملاكهم ورباعهم ، فيدل ذلك على أنه تركها لهم ، كما ترك لهوازن نساءهم وأبناءهم . وعلى القول الأول ، من كان ساكن دار أو منزل فهو أحق به ، يسكنه ويسكنه ، وليس له بيعه ، ولا أخذ أجرته ، ومن احتاج إلى مسكن ، فله بذل الأجرة فيه ، وإن احتاج إلى الشراء فله ذلك ، كما فعل عمر رضي الله عنه . وكان أبو عبد الله إذا سكن أعطاهم أجرتها . فإن سكن بأجرة فأمكنه أن لا يدفع إليهم الأجرة ، جاز له ذلك ; لأنهم لا يستحقونها ، وقد روي أن سفيان سكن في بعض رباع مكة ، وهرب ، ولم يعطهم أجرة ، فأدركوه ، فأخذوها منه . وذكر لأحمد فعل سفيان ، فتبسم ، فظاهر هذا ، أنه أعجبه .

                                                                                                                                            قال ابن عقيل : والخلاف في غير مواضع المناسك ، أما بقاع المناسك كموضع السعي والرمي ، فحكمه حكم المساجد ، بغير خلاف .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية