الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( 69 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( ولقد جاءت رسلنا ) ، من الملائكة وهم فيما ذكر ، كانوا جبريل وملكين آخرين . وقيل : إن الملكين الآخرين كانا [ ص: 382 ] ميكائيل وإسرافيل معه ( إبراهيم ) ، يعني : إبراهيم خليل الله ( بالبشرى ) ، يعني : بالبشارة .

واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها .

فقال بعضهم : هي البشارة بإسحاق .

وقال بعضهم : هي البشارة بهلاك قوم لوط .

( قالوا سلاما ) ، يقول : فسلموا عليه سلاما .

ونصب "سلاما" بإعمال "قالوا" فيه ، كأنه قيل : قالوا قولا وسلموا تسليما .

( قال سلام ) ، يقول : قال إبراهيم لهم : سلام فرفع "سلام" ، بمعنى : عليكم السلام أو بمعنى : سلام منكم .

وقد ذكر عن العرب أنها تقول : "سلم" بمعنى السلام ، كما قالوا : "حل وحلال" ، وحرم وحرام" . وذكر الفراء أن بعض العرب أنشده :

مررنا فقلنا إبه سلم فسلمت كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح [ ص: 383 ]

بمعنى سلام . وقد روي "كما انكل" .

وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرئ كذلك : نحن سلم لكم من "المسالمة" التي هي خلاف المحاربة .

وهذه قراءة عامة قرأة الكوفيين .

وقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والبصرة ، ( قالوا سلاما قال سلام ) ، على أن الجواب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لهم ، بنحو تسليمهم : عليكم السلام .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، لأن "السلم " قد يكون بمعنى "السلام " على ما وصفت ، و"السلام " بمعنى "السلم" ، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السلم دون الأعداء ، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم ، ورد الآخرين عليهم ، دل ذلك على مسالمة بعضهم بعضا . وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب .

وقوله : ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) .

وأصله "محنوذ" ، صرف من "مفعول" إلى "فعيل" .

وقد اختلف أهل العربية في معناه ، فقال بعض أهل البصرة منهم معنى "المحنوذ" : المشوي ، قال : ويقال منه : "حنذت فرسي" ، بمعنى سخنته وعرقته . واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز : [ ص: 384 ]


    ورهبا من حنذه أن يهرجا



وقال آخر منهم : "حنذ فرسه" : أي أضمره ، وقال : قالوا حنذه يحنذه حنذا : أي : عرقه .

وقال بعض أهل الكوفة : كل ما انشوى في الأرض ، إذا خددت له فيه ، فدفنته وغممته ، فهو "الحنيذ" و"المحنوذ" . قال : والخيل تحنذ ، إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق . قال : ويقال : "إذا سقيت فأحنذ" ، يعني : أخفس ، يريد : أقل الماء ، وأكثر النبيذ .

وأما [ أهل ] التأويل ، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره ، وذلك ما : -

18297 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( بعجل حنيذ ) ، يقول : نضيج

18298 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( بعجل حنيذ ) ، قال : "بعجل" ، حسيل [ ص: 385 ] البقر ، و"الحنيذ" : المشوي النضيج .

18299 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) إلى ( بعجل حنيذ ) ، قال : نضيج ، سخن ، أنضج بالحجارة .

18300 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) ، و"الحنيذ" : النضيج .

18301 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( بعجل حنيذ ) ، قال : نضيج . قال : [ وقال الكلبي ] : و"الحنيذ" : الذي يحنذ في الأرض .

18302 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر في قوله : ( فجاء بعجل حنيذ ) ، قال : "الحنيذ" : الذي يقطر ماء ، وقد شوي وقال حفص : "الحنيذ" : مثل حناذ الخيل .

18303 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذبحه ثم شواه في الرضف ، فهو "الحنيذ" حين شواه .

18304 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو يزيد ، عن يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية : ( فجاء بعجل حنيذ ) ، قال : المشوي الذي يقطر . [ ص: 386 ]

18305 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام قال ، حدثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، قال : "الحنيذ" الذي يقطر ماؤه وقد شوي .

18306 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( بعجل حنيذ ) ، قال : نضيج .

18307 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( بعجل حنيذ ) ، الذي أنضج بالحجارة .

18308 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان : ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) ، قال : مشوي .

18309 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : "حنيذ" ، يعني : شوي .

18310 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، "الحناذ" : الإنضاج .

قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقاربات المعاني بعضها من بعض .

وموضع "أن" في قوله : ( أن جاء بعجل حنيذ ) نصب بقوله : ( فما لبث أن جاء ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية