الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ ص: 184 ] وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة ، والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة ، فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو : " وعدنا " بغير ألف ، والباقون " واعدنا " بالألف على المفاعلة ، وقد مر بيان هذه القراءة في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أنه روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر : إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب ، فهذه الآية في بيان كيفية نزول التوراة ، واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة : ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) [ البقرة : 51 ] وذكر تفصيل تلك الأربعين في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : وما الحكمة ههنا في ذكر الثلاثين ثم إتمامها بعشر ؟ وأيضا فقوله : ( فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) كلام عار عن الفائدة ؛ لأن كل أحد يعلم أن الثلاثين مع العشر يكون أربعين .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : أما الجواب عن السؤال الأول فهو من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أنه تعالى أمر موسى عليه السلام بصوم ثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه ، فتسوك ، فقالت الملائكة : كنا نشم من فيك رائحة المسك ، فأفسدته بالسواك ، فأوحى الله تعالى إليه : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني في فائدة هذا التفضيل : أن الله أمره أن يصوم ثلاثين يوما ، وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى ، ثم أنزلت التوراة عليه في العشر البواقي ، وكلمه أيضا فيه . فهذا هو الفائدة في تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني في سورة طه ما دل على أن موسى عليه السلام بادر إلى ميقات ربه قبل قومه ، والدليل عليه قوله تعالى : ( وما أعجلك عن قومك ياموسى قال هم أولاء على أثري ) [ ص: 185 ] [ طه : 83 ] فجائز أن يكون موسى أتى الطور عند تمام الثلاثين ، فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري ، رجع إلى قومه قبل تمام ما وعده الله تعالى ، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى ، فتم أربعون ليلة .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الرابع : قال بعضهم لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه السلام وحده ، والوعد الثاني حضر المختارون معه ليسمعوا كلام الله تعالى ، فصار الوعد مختلفا لاختلاف حال الحاضرين . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن السؤال الثاني : أنه تعالى إنما قال : ( أربعين ليلة ) إزالة لتوهم أن ذلك العشر من الثلاثين ؛ لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين ، كأنه كان عشرين ثم أتمه بعشر ، فصار ثلاثين ، فأزال هذا الإيهام .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) ففيه بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : الفرق بين الميقات وبين الوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال ، والوقت وقت للشيء بتقدير مقدر أولا .

                                                                                                                                                                                                                                            والبحث الثاني : قوله : ( أربعين ليلة ) نصب على الحال أي تم بالغا هذا العدد .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( وقال موسى لأخيه هارون ) فقوله : ( هارون ) عطف بيان لأخيه ، وقرئ بالضم على النداء ( اخلفني في قومي ) كن خليفتي فيهم ( وأصلح ) وكن مصلحا أو ( وأصلح ) ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل ، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : إن هارون كان شريك موسى عليه السلام في النبوة ، فكيف جعله خليفة لنفسه ، فإن شريك الإنسان أعلى حالا من خليفته ، ورد الإنسان من المنصب الأعلى إلى الأدون يكون إهانة .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الأمر وإن كان كما ذكرتم ، إلا أنه كان موسى عليه السلام هو الأصل في تلك النبوة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لما كان هارون نبيا والنبي لا يفعل إلا الإصلاح ، فكيف وصاه بالإصلاح ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : المقصود من هذا الأمر التأكيد ، كقوله : ( ولكن ليطمئن قلبي ) [ البقرة : 260 ] والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية