الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون " هذه بعض معاذيرهم قالها فريق منهم ممن غلبه الحياء على أن يكابر ويجاهر بالتكذيب ، وغلبه إلف ما هو عليه من حال الكفر على الاعتراف بالحق ، فاعتذروا بهذه المعذرة ، فروي عن ابن عباس ، أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وناسا من قريش جاءوا النبيء صلى الله عليه وسلم ، فقال الحارث : إنا لنعلم أن قولك حق ، ولكنا نخاف إن اتبعنا الهدى معك ونؤمن بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا ، ولا طاقة لنا بهم ، وإنما نحن أكلة رأس ، أي أن جمعنا يشبعه الرأس الواحد من الإبل ، وهذه الكلمة كناية عن القلة فهؤلاء اعترفوا في ظاهر الأمر بأن النبيء صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الهدى .

والتخطف : مبالغة في الخطف ، وهو انتزاع شيء بسرعة ، وتقدم في قوله تعالى تخافون أن يتخطفكم الناس في سورة الأنفال . والمراد : يأسرنا الأعداء معهم إلى ديارهم ، فرد الله عليهم بأن قريشا مع قلتهم عدا وعدة أتاح الله لهم بلدا هو حرم آمن يكونون فيه آمنين من العدو على كثرة قبائل العرب ، واشتغالهم بالغارة على [ ص: 149 ] جيرتهم وجبى إليهم ثمرات كثيرة قرونا طويلة ، فلو اعتبروا لعلموا أن لهم منعة ربانية وأن الله الذي أمنهم في القرون الخالية يؤمنهم إن استجابوا لله ورسوله .

والتمكين : الجعل في مكان ، وتقدم في قوله تعالى مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم في سورة الأنعام ، وقوله في أول هذه السورة ونمكن لهم في الأرض . واستعمل هنا مجازا في الإعداد والتيسير .

والجبي : الجمع والجلب ومنه جباية الخراج .

والاستفهام إنكار أن يكون الله لم يمكن لهم حرما . ووجه الإنكار أنهم نزلوا منزلة من ينفي أن ذلك الحرم من تمكين الله ، فاستفهموا على هذا النفي استفهام إنكار .

وهذا الإنكار يقتضي توبيخا على هذه الحالة التي نزلوا لأجلها منزلة من ينفي أن الله مكن لهم حرما .

والواو عطفت جملة الاستفهام على جملة " وقالوا " . والتقدير : ونحن مكنا لهم حرما .

و " كل شيء " عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي ، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم أو استعمل " كل " في معنى الكثرة .

و " رزقا " حال من " ثمرات " وهو مصدر بمعنى المفعول .

ومعنى " من لدنا " من عندنا ، والعندية مجاز في التكريم والبركة ، أي رزقا قدرناه لهم إكراما فكأنه رزق خاص من مكان شديد الاختصاص بالله تعالى .

وقد حصل في خلال الرد لقولهم إدماج للامتنان عليهم بهذه النعمة ليحصل لهم وازعان عن الكفر بالنعم : وازع إبطال معذرتهم عن الكفر ، ووازع التذكير بنعمة المكفور به .

وموقع الاستدراك في قوله ولكن أكثرهم لا يعلمون أنه متعلق بالكلام المسوق مساق الرد على قولهم إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا إذ التقدير : أن تلك نعمة ربانية ولكن أكثرهم لا علم لهم فلذلك لم يتفطنوا إلى [ ص: 150 ] كنه هذه النعمة فحسبوا أن الإسلام مفض إلى اعتداء العرب عليهم ظنا بأن حرمتهم بين العرب مزية ونعمة أسداها إليهم قبائل العرب .

وفعل " لا يعلمون " منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول ، أي ليسوا ذوي علم ونظر بل هم جهلة لا يتدبرون الأحوال . ونفي العلم عن أكثرهم ؛ لأن بعضهم أصحاب رأي فلو نظروا وتدبروا لما قالوا مقالتهم تلك .

ولو قدر لفعل " يعلمون " مفعول دل عليه الكلام ، أي لا يعلمون تمكين الحرم لهم وأن جلب الثمرات إليهم من فضلنا لما استقام إسناد نفي العلم إلى أكثرهم بل كان يسند إلى جميعهم لإطباق كلمتهم على مقالة إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا .

وقرأ نافع وأبو جعفر ورويس عن يعقوب ( تجبى ) بالمثناة الفوقية . وقرأ الباقون بالياء التحتية مراعاة للمضاف إليه وهو ( كل شيء ) فأكسب المضاف تذكيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية