الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : قالت ياأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين .

فيه ست مسائل :

قالت يا أيها الملأ في الكلام حذف ; والمعنى : فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهي تقول : يا أيها الملأ ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان عليه السلام ; وهذا قول ابن زيد . وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم ، فكرامة الكتاب ختمه ; وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : لأنه بدأ فيه ب بسم الله الرحمن الرحيم وقد قال صلى الله عليه وسلم : كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم . وقيل : لأنه بدأ فيه بنفسه ، ولا يفعل ذلك إلا الجلة . وفي حديث ابن [ ص: 179 ] عمر أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه . من عبد الله لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين ; إني أقر لك بالسمع والطاعة ما استطعت ، وإن بني قد أقروا لك بذلك . وقيل : توهمت أنه كتاب جاء من السماء إذ كان الموصل طيرا . وقيل : ( كريم ) : حسن ; كقوله : ومقام كريم أي مجلس حسن . وقيل : وصفته بذلك ; لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل ، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا ، ولا ما يغير النفس ، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق ; على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عز وجل ; ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وقوله لموسى وهارون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى . وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها . وقد روي أنه لم يكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أحد قبل سليمان . وفي قراءة عبد الله ( وإنه من سليمان ) بزيادة واو .

الثانية : الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف ; ألا ترى قوله تعالى : إنه لقرآن كريم وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالأثير وبالمبرور ; فإن كان لملك قالوا : العزيز . وأسقطوا الكريم غفلة ، وهو أفضلها خصلة . فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله تعالى : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهذه عزته وليست لأحد إلا له ، فاجتنبوها في كتبكم ، واجعلوا بدلها العالي ; توفية لحق الولاية ، وحياطة للديانة ; قاله القاضي أبو بكر بن العربي .

الثالثة : كان رسم المتقدمين إذا كتبوا أن يبدءوا بأنفسهم : من فلان إلى فلان ، وبذلك جاءت الآثار . وروىالربيع عن أنس قال : ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أصحابه إذا كتبوا بدءوا بأنفسهم . وقال ابن سيرين قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أهل فارس إذا كتبوا بدءوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه قال أبو الليث في كتاب ( البستان ) له : ولو بدأ [ ص: 180 ] بالمكتوب إليه لجاز ; لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك ، أو نسخ ما كان من قبل ; فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه ، ثم بنفسه ; لأن البداية بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه ; إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده ، أو غلام من غلمانه .

الرابعة : وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب ; لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر . وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام . والله أعلم .

الخامسة : اتفقوا على كتب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في أول الكتب والرسائل ، وعلى ختمها ; لأنه أبعد من الريبة ، وعلى هذا جرى الرسم ، وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب أنه قال : أيما كتاب لم يكن مختوما فهو أغلف . وفي الحديث : كرم الكتاب ختمه . وقال بعض الأدباء ; هو ابن المقفع : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به ; لأن الختم ختم . وقال أنس : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم فقيل له : إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه ختم ; فاصطنع خاتما ونقش على فصه لا إله إلا الله محمد رسول الله . وكأني أنظر إلى وبيصه وبياضه في كفه .

السادسة : قوله تعالى : إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( وإنه ) بالكسر فيهما أي وإن الكلام ، أو إن مبتدأ الكلام بسم الله الرحمن الرحيم . وأجاز الفراء ( أنه من سليمان وأنه ) بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بدل من ( الكتاب ) ; بمعنى ألقي إلي أنه من سليمان . وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض ; أي لأنه من سليمان ولأنه ; كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله . وقرأ الأشهب العقيلي ومحمد بن السميقع : ( ألا تغلوا ) بالغين المعجمة ، وروي عن وهب بن منبه ; من غلا يغلو : إذا تجاوز وتكبر . وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة . وأتوني مسلمين أي منقادين طائعين مؤمنين .

التالي السابق


الخدمات العلمية