الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الميتة للمضطر

                                                                                                                                            3651 - ( عن أبي واقد الليثي قال : { قلت يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا مخمصة فما يحل لنا من الميتة ؟ فقال : إذا لم تصطبحوا ولم تعتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها } . رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            3652 - ( وعن جابر بن سمرة : { أن أهل بيت كانوا . بالحرة محتاجين قال : فماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم ، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكلها ، قال : فعصمتهم بقية شتائهم أو سنتهم } . رواه أحمد .

                                                                                                                                            وفي لفظ : { أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده ، فقال رجل : إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت ، فقالت امرأته : انحرها ، فأبى فنفقت ، فقالت : اسلخها حتى نقدر شحمها ولحمها ونأكله ، فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله ، فقال : هل عندك غنى يغنيك ؟ قال : لا ، قال : فكلوه ، قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحيت منك } . رواه أبو داود ، وهو دليل على إمساك الميتة للمضطر ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي واقد ، قال في مجمع الزوائد : أخرجه الطبراني ورجاله ثقات انتهى .

                                                                                                                                            [ ص: 172 ] وحديث جابر بن سمرة سكت عنه أبو داود والمنذري ، وليس في إسناده مطعن لأن أبا داود رواه من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة .

                                                                                                                                            وفي الباب عن الفجيع العامري أنه { أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما يحل لنا الميتة ؟ قال : ما طعامكم ؟ قلنا : نغتبق ونصطبح } قال أبو نعيم وهو الفضل بن دكين : فسره لي عقبة قدح غدوة وقدح عشية " قال ذاك وأبى الجوع ، فأحل لهم الميتة على هذه الحال " قال أبو داود : الغبوق من آخر النهار ، والصبوح من أول النهار . وفي إسناده عقبة بن وهب العامري . قال يحيى بن معين : صالح . وقال علي بن المديني : قلت لسفيان بن عيينة عقبة بن وهب ، فقال : ما كان ذاك فيدري ما هذا الأمر ولا كان شأنه الحديث انتهى . قوله : ( إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ) قال ابن رسلان في شرح السنن : الاصطباح ههنا أكل الصبوح وهو الغداء ، والغبوق : أكل العشاء انتهى . وقد تقدم تفسير الصبوح والغبوق وهما بفتح أولهما ، والأول شرب اللبن أول النهار ، والثاني شرب اللبن آخر النهار ثم استعملا في الأكل للغداء والعشاء وعليهما يحمل ما في حديث أبي واقد الليثي المذكور ، ولعل المراد بهما في حديث الفجيع مجرد شرب اللبن لأنه لو كان المراد بهما أكل الطعام في الوقتين لم يصح ما في آخر الحديث وهو قوله " ذاك وأبى الجوع " إذ لا جوع حينئذ . قوله : ( ولم تحتفئوا بها بقلا ) بفتح المثناتين من فوق بينهما حاء مهملة وبعدهما فاء مكسورة ثم همزة مضمومة من الحفاء وهو البردي بضم الموحدة : نوع من جيد التمر . وضعفه بعضهم بأن البردي ليس من البقول . قال أبو عبيد : هو أصل البردي الأبيض الرطب وقد يؤكل

                                                                                                                                            قال أبو عبيد : معنى الحديث أنه ليس لكم أن تصطبحوا وتغتبقوا وتجمعوهما مع الميتة قال الأزهري : قد أنكر هذا على أبي عبيد وفسر أنه أراد إذا لم تجدوا ألبنة تصطبحونها أو شرابا تغتبقونه ولم تجدوا بعد عدم الصبوح والغبوق بقلة تأكلونها حلت لكم الميتة ، قال : وهذا هو الصحيح .

                                                                                                                                            قال الخطابي : القدح من اللبن بالغداة ، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس وإن كان لا يغذو البدن ولا يشبع الشبع التام ، وقد أباح لهم مع ذلك الميتة فكان دلالته أن تتناول الميتة إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت كما ذهب إليه مالك والشافعي في أحد قوليه ، والقول الراجح عند الشافعي هو الاقتصار على سد الرمق كما نقله المزني وصححه الرافعي والنووي ، وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك والهادوية ويدل عليه قوله " هل عندك غنى يغنيك " إذا كان يقال لمن وجد سد رمقه مستغنيا لغة أو شرعا .

                                                                                                                                            واستدل به بعضهم على القول الأول قال لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه ، والآية الكريمة قد دلت على تحريم الميتة ، واستثنى ما وقع الاضطرار إليه ، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل الأكل كحالة الابتداء ، [ ص: 173 ] ولا شك أن سد الرمق يدفع الضرورة ، وقيل إنه يجوز أكل المعتاد للمضطر في أيام عدم الاضطرار ، قال الحافظ : وهو الراجح لإطلاق الآية . واختلفوا في الحالة التي يصح فيها الوصف بالاضطرار ويباح عندها الأكل . فذهب الجمهور إلى أنها الحالة التي يصل به الجوع فيها إلى حد الهلاك أو إلى مرض يفضي إليه ، وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام .

                                                                                                                                            قال ابن أبي جمرة : الحكمة في ذلك أن في الميتة سمية شديدة ، فلو أكلها ابتداء لأهلكته ، فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية هي أشد من سمية الميتة قوله : ( كانوا بالحرة ) بفتح الحاء والراء المشددة - مهملتين - أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود . قوله : ( فنفقت ) بفتح النون والفاء والقاف : أي ماتت يقال : نفقت الدابة نفوقا مثل قعدت المرأة قعودا : إذا ماتت . قوله : ( حتى نقدر ) بفتح النون وسكون القاف وضم الدال بعده راء مهملة ، هكذا في النسخ الصحيحة ، يقال قدر اللحم يقدره : طبخه في القدر .

                                                                                                                                            وفي سنن أبي داود " نقدد اللحم " بدال مهملة مكان الراء وعلى ذلك شرح ابن رسلان فإنه قال : أي نجعله قديدا . قوله : ( غنى يغنيك ) أي تستغني به يكفيك ويكفي أهلك وولدك عنها .

                                                                                                                                            وقوله : ( استحييت منك ) بياءين مثناتين من تحت . ولغة تميم وبكر بن وائل : استحيت بفتح الحاء وحذف إحدى الياءين . وقد دلت أحاديث الباب على أنه يجوز للمضطر أن يتناول من الميتة ما يكفيه على الخلاف السابق في مقدار ما يتناوله ولا أعلم خلافا في الجواز وهو نص القرآن الكريم ، وهل يجب على المضطر أن يتناول من الميتة حفظا لنفسه . قال في البحر : في ذلك وجهان : يجب لوجوب دفع الضرر ولا يجب إيثارا للورع . واختلفوا في المراد بقوله تعالى { غير باغ } فقيل : أي غير متلذذ ولا مجاوز لدفع الضرر ، وقيل : أي غير عاص فمنعوا العاصي من أكل الميتة .

                                                                                                                                            وحكى الحافظ في الفتح عن الجمهور أنهم جعلوا من البغي العصيان ، قالوا : وطريقه أن يتوب ثم يأكل قال : وجوزه بعضهم مطلقا ، ولعله يعني بالبعض القائل بالتفسير الأول .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية