الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولقد ذكر - سبحانه - أن الرسول منهم؛ يعرفونه؛ ويألفونه؛ ويكون من أوسطهم نسبا؛ وأعلاهم مكانة؛ ولقد كان رد قومه عليه - وهو مثل من الرسل الذين جاؤوا بعد نوح - كرد قوم نوح؛ فقال (تعالى) - عنهم -: وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ؛ وصف الله الذين كفروا وكذبوا بثلاث صفات؛ هي الصفات الملازمة لمعارضي الأنبياء؛ ومعانديهم؛ الصفة الأولى أنهم من الملإ؛ أي: من أشراف قومه؛ وبطانة الرؤساء والكبراء؛ وليسوا من الضعفاء؛ ولا الفقراء والعبيد؛ الصفة الثانية أنهم كذبوا بلقاء الآخرة؛ لا يؤمنون بالبعث والنشور; لأنهم استغرقتهم المادة؛ فلا يؤمنون بالبعث؛ ولا يصدقون إلا المحسوس الذي يرونه؛ ومن لا يؤمن إلا بما يحس فقلبه أعمى وعقله في ضلال؛ وهو كالأنعام؛ بل أضل سبيلا؛ وقوله (تعالى): وكذبوا بلقاء الآخرة ؛ من إضافة المصدر إلى ظرفه؛ أي: اللقاء الذي يكون في الآخرة؛ وهو لقاء الحساب والعقاب والثواب؛ ولقاء ملائكة العذاب؛ أي أنه يلقى كل في الآخرة كل ما هو شقاء؛ مرهوب؛ والصفة الثالثة قوله (تعالى): وأترفناهم في الحياة الدنيا ؛ و " الترف " : التوسع في النعيم؛ و " أترفوا في الحياة الدنيا " ؛ معناها: وسع لهم فيها؛ ونالوا نعيمها؛ وذكر الحياة الدنيا؛ إشارة إلى أنهم ينعمون في الحياة الدنيا؛ ولم يلهموا شكر النعمة فيها; لأنهم لو ألهموا الشكر؛ لوسعت عليهم النعمة في الدنيا؛ والآخرة.

                                                          وذكر الإتراف في هذه الحياة الدنيا; لأن الترف فيها لا يجعلهم يعملون للآخرة; إذ تلهيهم أموالهم وأولادهم عن العمل للآخرة؛ كما قال الله (تعالى) [ ص: 5071 ] - للكافرين -: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ولأن الترف من غير إيمان يجعل النفس مائعة غير جادة إلا فيما يعني جمع المال; ولأن كثرة المادة تمنع إدراك معاني الإيمان؛ لأن المادة تستغرق الإدراك؛ وأساس الإيمان هو الإيمان بالغيب؛ وبما وراء الحس؛ ولا يكون ذلك إلا بقلب مملوء بالرحمة والمعاني الإنسانية السامية.

                                                          ومع هذه الأوصاف نجد سبب إنكارهم أنه بشر مثلهم؛ فيقولون في تكذيبهم: ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ؛ فهم - أولا - يحكمون بالمثلية لهم؛ وفي ذلك إشعار بأنهم ينافسون عليه مكانته من النبوة دونهم؛ وأن ذلك يومئ بحقدهم عليه؛ وحسدهم له على ما آتاه الله (تعالى) من فضله؛ ووضحوا هذه المثلية بقوله (تعالى) - عنهم -: يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ؛ فأقيستهم مادية صرفة؛ ولا يؤمنون بمعنى من المعاني العالية؛

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية