الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1075 لمالك عنه في الموطأ من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أحاديث ، أحدها متصل مسند ، والثلاثة منقطعة مرسلة .

حديث أول لإسماعيل بن أبي حكيم مسند .

مالك ، عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أكل كل ذي ناب من السباع حرام .

التالي السابق


عبيدة بن سفيان هذا من تابعي أهل المدينة ثقة حجة فيما نقل سمع من أبي هريرة ، وأبي الجعد الضمري ، روى عنه محمد بن عمرو ، وبكير بن الأشج ، وإسماعيل بن أبي حكيم ، وهذا حديث ثابت صحيح مجتمع على صحته .

[ ص: 140 ] وفيه من الفقه أن النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع نهي تحريم لا نهي أدب وإرشاد ، ولو لم يأت هذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان الواجب في النظر أن يكون نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع نهي تحريم ، فكيف وقد جاء مفسرا في هذا الخبر ; لأن النهي حقيقته الإبعاد ، والزجر ، والانتهاء ، وهذا غاية التحريم ; لأن التحريم في كلام العرب الحرمان ، والمنع ، قال الله عز وجل : وحرمنا عليه المراضع من قبل أي حرمناه رضاعهن ، ومنعناه منهن ، ولم يكن ممن تجري عليه عبادة في ذلك الوقت لطفولته ، والنهي يقتضي معنى المنع كله .

وتقول العرب حرمت عليك دخول داري أي منعتك من ذلك ، وهذا القول عندهم في معنى لا تدخل الدار ، كل ذلك منع ، وتحريم ، ونهي ، وحرمان .

وكل خبر جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه نهي ، فالواجب استعماله على التحريم إلا أن يأتي معه أو في غيره دليل يبين المراد منه أنه ندب وأدب ، فيقضى للدليل فيه ، ألا ترى إلى نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح الشغار ، وعن نكاح المحرم ، وعن نكاح المرأة على عمتها أو خالتها ، وعن قليل ما أسكر كثيره من الأشربة ، وعن سائر ما نهى عنه من أبواب الربا في البيوع ، وهذا كله نهي تحريم ، فكذلك النهي عن أكل كل ذي ناب ، والله أعلم .

وقد اختلف أصحابنا في ذلك على ما سنبينه في آخر هذا الباب إن شاء الله ، ومما يدل على أن ما رواه إسماعيل بن أبي حكيم ، عن عبيدة بن سفيان ، عن أبي هريرة ، في هذا الحديث ، كما رواه ، ما حدثني به أبو عثمان سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح [ ص: 141 ] قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع ، والمجثمة ، والحمار الأهلي .

قال أبو عمر : وأما ما جاء من النهي على جهة الأدب ، وحسن المعاملة ، والإرشاد إلى المرء ، نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أن يمشي المرء في نعل واحدة ، وأن يقرن بين تمرتين في الأكل ، وأن يأكل من رأس الصحفة ، وأن يشرب من في السقاء ، وغير ذلك مثله كثير قد علم بمخرجه المراد منه ، وقد قال جماعة من أهل العلم : إن كل نهي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الأشياء ، ففعله الإنسان منتهكا لحرمته وهو عالم بالنهي غير مضطر إليه أنه عاص آثم ، واستدلوا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم فأطلق النهي ولم يقيده بصفة ، وكذلك الأمر لم يقيده إلا بعدم الاستطاعة ، فقالوا : إن من شرب من في السقاء ، أو مشى في نعل واحدة ، أو قرن بين تمرتين في الأكل ، أو أكل من رأس الصحفة ، ونحو هذا ، وهو عالم بالنهي كان عاصيا ، وقال آخرون : إنما نهى عن الأكل من رأس الصحفة ; لأن البركة تنزل منها ، ونهى عن القران بين تمرتين لما فيه من سوء الأدب أن يأكل المرء مع جليسه وأكيله تمرتين في واحد ، ويأخذ جليسه تمرة ، فمن فعل فلا حرج وكذلك النهي [ ص: 142 ] عن الشرب من في السقاء خوف الهوام ; لأن أفواه الأسقية تقصدها الهوام ، وربما كان في السقاء ما يؤذيه ، فإذا جعل منه في إناء رآه وسلم منه ، وقالوا في سائر ما ذكرنا نحو هذا مما يطول ذكره ، وما أعلم أحدا من العلماء جعل النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من هذا الباب ، وإنما هو من الباب الأول إلا أن بعض أصحابنا زعم أن النهي عن ذلك نهي تنزه وتقذر ، ولا أدري ما معنى قوله نهي تنزه وتقذر ، فإن أراد به نهي أدب ، فهذا ما لا يوافق عليه ، وإن أراد أن كل ذي ناب من السباع يجب التنزه عنه ، كما يجب التنزه عن النجاسة والأقذار ، فهذا غاية في التحريم ; لأن المسلمين لا يختلفون في أن النجاسات محرمات العين أشد التحريم لا يحل استباحة أكل شيء منها ، ولم يرده القائلون من أصحابنا ما حكينا هذا عنهم ، ولكنهم أرادوا الوجه الذي هو عند أهل العلم ندب وأدب ; لأن بعضهم احتج بظاهر قول الله عز وجل قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير الآية .

وذكر أن من الصحابة من استعمل هذه الآية ، ولم يحرم ما عداها ، فكأنه لا حرام عنده على طاعم إلا ما ذكر في هذه الآية ، ويلزمه على أصله هذا أن يحل أكل الحمر الأهلية ، وهو لا يقول هذا في الحمر الأهلية لأنه لا تعمل الذكاة عنده في لحومها ، ولا في جلودها ، ولو لم يكن عنده محرما إلا ما في هذه الآية لكانت الحمر الأهلية عنده حلالا ، وهو لا يقول هذا ، ولا أحد من أصحابه ، وهذه مناقضة ، وكذلك يلزمه أن لا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا ، ويستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين .

وقد أجمعوا أن مستحل خمر العنب المسكر كافر راد على الله عز وجل خبره في كتابه مرتد يستتاب فإن تاب ورجع عن قوله ، وإلا استبيح دمه [ ص: 143 ] كسائر الكفار ، وفي إجماع العلماء على تحريم خمر العنب المسكر دليل واضح على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وجد ، فيما أوحي إليه محرما غير ما في سورة الأنعام مما قد نزل بعدها من القرآن ، وكذلك ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من تحريم الحمر الأهلية ، ومن فرق بين الحمر وبين كل ذي ناب من السباع ، فقد تناقض ، والنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع أصح مخرجا ، وأبعد من العلل من النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية لأنه قد روي في الحمر أنه إنما نهاهم عنها يوم خيبر لقلة الظهر ، وقيل إنه إنما نهى منها عن الجلالة التي تأكل الجلة ، وهي العذرة ، وسائر القذر قد قال بهذا وبهذا قوم ولا حجة عنده ولا عندنا فيه لثبوت نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك مطلقا ، وصحته ، وأن ما روي مما ذكرنا لا يثبت ، وسيأتي القول في الحمر مستوعبا في باب ابن شهاب من كتابنا هذا .

وأظن قائل هذا القول من أصحابنا في أكل كل ذي ناب من السباع راعى اختلاف العلماء في ذلك ، ولا يجوز أن يراعي الاختلاف عند طلب الحجة ; لأن الاختلاف ليس منه شيء لازم دون دليل ، وإنما الحجة اللازمة الإجماع لا الاختلاف ; لأن الإجماع يجب الانقياد إليه لقول الله ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى الآية ، والاختلاف يجب طلب الدليل عنده من الكتاب والسنة ، قال الله عز وجل : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية يريد الكتاب والسنة هكذا فسره العلماء .

فأما قول الله عز وجل : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية ، فقد اختلف العلماء في معناها ، فقال قوم من فقهاء العراقيين ممن يجيز نسخ [ ص: 144 ] القرآن بالسنة ، إن هذه الآية منسوخة بالسنة ; لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية ، وقال آخرون : معنى قوله هنا أي لا أجد قد أوحي إلي في هذا الحال - يعني في تلك الحال - حال الوحي ، ووقت نزوله لأنه قد أوحي إليه بعد ذلك في سورة المائدة من تحريم المنخنقة ، والموقوذة إلى سائر ما ذكر في الآية ، فكما أوحى الله إليه في القرآن تحريما بعد تحريم ، جاز أن يوحي إليه على لسانه تحريما بعد تحريم ، وليس في هذا شيء من النسخ ، ولكنه تحريم شيء بعد شيء ، قالوا : مع أنه ليس للحمار ، والسباع ، وذي المخلب والناب ذكر في قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه وذلك أن الله عز وجل إنما ذكر ثمانية أزواج ، من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ثم قال : قل لا أجد في ما أوحي يعني والله أعلم من هذه الأزواج الثمانية محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فزاد ذكر لحم الخنزير تأكيدا في تحريمه حيا وميتا ; لأنه ما حرم لحمه لم تعمل الذكاة فيه ، فكان أشد من الميتة ، ولم يذكر السباع والحمير والطير ذا المخلب بتحليل ولا تحريم ، وقال آخرون : ليس السباع والحمر من بهيمة الأنعام التي أحلت لنا ، فلا يحتاج فيها إلى هذا ، وقال الآخرون هذه الآية جواب لما سأل عنه قوم من الصحابة ، فأجيبوا عن مسألتهم كأنهم يقولون إن معنى الآية قل لا أجد فيما أوحي إلي مما ذكرتم ، أو مما كنتم تأكلون ، ونحو هذا ، قاله طاوس ، ومجاهد ، وقتادة ، وتابعهم قوم ، واستدلوا على صحة ذلك بأن الله قد حرم في كتابه وعلى لسان رسوله أشياء لم تذكر في الآية لأنه لا يختلف المسلمون في ذلك .

[ ص: 145 ] ذكر سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني إبراهيم بن أبي بكر أن مجاهدا أخبره في قول الله عز وجل قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ، قال : ما كان أهل الجاهلية يأكلون لا أجد من ذلك محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية ، قال حجاج : وأخبرنا ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه مثله ، وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة نحوه ، وقالت فرقة : الآية محكمة ولا يحرم إلا ما فيها ، وهو قول يروى عن ابن عباس ، وقد روي عنه خلافه في أشياء حرمها يطول ذكرها ، وكذلك اختلف فيه عن عائشة ، وروي عن ابن عمر من وجه ضعيف ، وهو قول الشعبي ، وسعيد بن جبير في الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع أنه ليس شيء منها محرما ، وأما سائر فقهاء المسلمين في جميع الأمصار ، فمخالفون لهذا القول متبعون للسنة في ذلك ، وقال أكثر أهل العلم والنظر من أهل الأثر وغيرهم : إن الآية محكمة غير منسوخة ، وكل ما حرمه رسول الله مضموم إليها ، وهو زيادة من حكم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا فرق بين ما حرم الله في كتابه ، أو حرمه على لسان رسوله بدليل قول الله عز وجل : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، وقوله : من يطع الرسول فقد أطاع الله ، وقوله : واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ، قال أهل العلم : القرآن والسنة ، وقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقوله : [ ص: 146 ] وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله ، وقوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ، فقرن الله عز وجل طاعته بطاعته ، وأوعد على مخالفته ، وأخبر أنه يهدي إلى صراطه ، وبسط القول في هذا موجود في كتب الأصول ، وليس في هذه الآية دليل على أن لا حرام على آكل إلا ما ذكر فيها ، وإنما فيها أن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن يخبر عباده أنه لم يجد في القرآن منصوصا شيئا محرما على الآكل والشارب إلا ما في هذه الآية ، وليس ذلك بمانع أن يحرم الله في كتابه بعد ذلك وعلى لسان رسوله أشياء سوى ما في هذه الآية .

وقد أجمعوا أن سورة الأنعام مكية ، وقد نزل بعدها قرآن كثير ، وسنن عظيمة ، وقد نزل تحريم الخمر في المائدة بعد ذلك ، وقد حرم الله على لسان نبيه أكل كل ذي ناب من السباع وأكل الحمر الأهلية ، وغير ذلك ، فكان ذلك زيادة حكم من الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - كنكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم كحكمه بالشاهد ، واليمين مع قول الله : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، وما أشبه هذا كثير تركناه خشية الإطالة ، ألا ترى أن الله قال في كتابه : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، وقد حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشياء من البيوع وإن تراضا بها المتبايعان كالمزابنة ، وبيع ما ليس عندك ، وكالتجارة في الخمر ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، وقد أجمع العلماء أن سورة الأنعام مكية إلا قوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآيات الثلاث ، وأجمعوا أن نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة ، ولم يرو ذلك عنه غير أبي هريرة ، وأبي ثعلبة الخشني ، وإسلامهما متأخر [ ص: 147 ] بعد الهجرة إلى المدينة بأعوام ، وقد روي ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل رواية أبي هريرة ، وأبي ثعلبة في النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من وجه صالح ، قال إسماعيل بن إسحاق القاضي : وهذا كله يدل على أنه أمر كان بالمدينة بعد نزول قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية ; لأن ذلك مكي .

قال أبو عمر : قول الله عز وجل : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية قد أوضحنا بما أوردنا في هذا الباب بأنه قول ليس على ظاهره ، وأنه ليس نصا محكما ; لأن النص المحكم ما لا يختلف في تأويله ، وإذا لم يكن نصا كان مفتقرا إلى بيان الرسول لمراد الله منه كافتقار سائر مجملات الكتاب إلى بيانه ، قال الله عز وجل : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكل كل ذي ناب وأكل الحمر الأهلية مراد الله ، فوجب الوقوف عنده ، وبالله التوفيق .

فإن قال قائل : إن الحمر الأهلية وذا الناب من السباع لو كان أكلها حراما لكفر مستحلها ، كما يكفر مستحل الميتة ولحم الخنزير ، فالجواب عن ذلك أن المحرم بآية مجتمع على تأويلها ، أو سنة مجتمع على القول بها يكفر مستحله ; لأنه جاء مجيئا يقطع العذر ولا يسوغ فيه التأويل ، وما جاء مجيئا يوجب العمل ولا يقطع العذر وساغ فيه التأويل لم يكفر مستحله ، وإن كان مخطئا ، ألا ترى أن المسكر من غير شراب العنب لا يكفر المتأول فيه ، وإن كان قد صح عندنا النهي بتحريمه ، ولا يكفر من يقول بأن الصلاة يخرج منها المرء ويتحلل بغير سلام ، وأن السلام ليس من فرائضها مع قيام الدليل على وجوب السلام عندنا فيها ، وكذلك لا يكفر من قال : إن قراءة القرآن [ ص: 148 ] وغيرها سواء ، وأن تعيين قراءتها في الصلاة ليس بواجب ومن قرأ غيرها أجزأه مع ثبوت الآثار عن النبي عليه السلام أنه لا صلاة إلا بها ، وكذلك لا يكفر من أوجب الزكاة على خمسة رجال ملكوا خمس ذود من الإبل ، ولا من قال : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، ولا حج إلا على من ملك زادا أو راحلة مع إطلاق الله الاستطاعة ، ونفيه على لسان رسوله أن يكون فيما دون خمس ذود صدقة ، وأنه صام في السفر صلى الله عليه وسلم ، وهذا كثير لا يجهله من له أقل عناية بالعلم إن شاء الله .

قرأت على عبد الرحمن بن يحيى أن علي بن محمد أخبرهم ، قال : حدثنا أحمد بن أبي سليمان ، قال : حدثنا سحنون ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : حدثنا يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وابن لهيعة ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم .

[ ص: 149 ] أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : أخبرنا محمد بن بكر التمار ، قال : حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : حدثنا أشعث بن شعبة ، قال : حدثنا أرطأة بن المنذر ، قال : سمعت حكيم بن عمير أبا الأحوص يحدث عن العرباض بن سارية ، قال : نزلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر ، فذكر الحديث ، وفيه : أنه أمر مناديا فنادى إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن ، وأن اجتمعوا للصلاة ، فاجتمعوا ، ثم صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قام فقال : أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإني قد أمرت ، ووعظت ، ونهيت عن أشياء ، إنها لمثل القرآن أو أكثر ، وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة ، قال : حدثنا أبو عمر ، وعثمان بن كثير [ ص: 150 ] بن دينار ، عن جرير بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن أبي عوف ، عن المقدام بن معدي كرب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ، ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه ، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه .

وروى بقية ، عن الزبيدي ، عن مروان بن رؤبة ، عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي ، عن المقدام بن معدي كرب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا إني قد أوتيت الكتاب وما يعدله ، يوشك شبعان على أريكته . . . فذكره إلى آخره مثله .

وقرأت على أبي عمر أحمد بن عبد الله بن محمد الباجي ، فأقر به أن الميمون بن حمزة الحسيني حدثهم ، قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي ، قال : حدثنا المزني ، وقرأت على إبراهيم بن شاكر أن محمد بن يحيى بن عبد العزيز حدثهم ، قال : حدثنا أسلم بن عبد العزيز ، قال : حدثنا الربيع بن سليمان ، قالا [ ص: 151 ] جميعا : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا سفيان ، عن سالم أبي النضر أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر ، عن أبيه ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه .

قال ابن عيينة : وأخبرني به محمد بن المنكدر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا .

أخبرنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : أخبرنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي نضرة أو غيره ، قال : كنا عند عمران بن حصين ، فكنا نتذاكر العلم ، قال : فقال رجل لا تتحدثوا إلا بما في القرآن ، فقال له عمران بن الحصين : إنك لأحمق أوجدت في القرآن صلاة الظهر أربع ركعات ، والعصر أربع ركعات لا يجهر في شيء منهما والمغرب بثلاث يجهر بالقراءة في ركعتين ولا يجهر بالقراءة في ركعة ، والعشاء أربع ركعات يجهر بالقراءة في ركعتين ، ولا يجهر بالقراءة في ركعتين ، والفجر ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ؟ .

[ ص: 152 ] قال : وقال عمران : لما نحن فيه يعدل القرآن ، أو نحوه من الكلام ، قال علي : ولم يكن الرجل الذي قال هذا صاحب بدعة ، ولكنه كانت زلة منه .

أخبرنا أبو القاسم خلف بن القاسم ، قال : حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن ناصح المعروف بابن المفسر ، قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي ، قال : حدثنا داود بن رشيد ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن محفوظ بن مسور الفهري ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوشك أحدكم يقول : هذا كتاب الله ، ما كان فيه من حلال أحللناه ، وما كان فيه من حرام حرمناه ، ألا من بلغه عني حديث فكذب به ، فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه .



قال أبو عمر : اختلف الفقهاء في معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كل ذي ناب من السباع حرام فقال منهم قائلون : إنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله هذا ما كان يعدو على الناس ، مثل الأسد ، والذئب ، والنمر ، والكلب العادي ، وما أشبه ذلك مما الأغلب في طبعه أن يعدو ، وما كان الأغلب من طبعه أنه لا يعدو فليس مما عناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله هذا ، وإذا لم يكن يعدو فلا بأس بأكله .

واحتجوا بحديث الضبع في إباحة أكله ، وهي سبع ، وهو حديث انفرد به عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ، وقد وثقه جماعة من أئمة [ ص: 153 ] أهل الحديث ، ورووا عنه حديثه هذا واحتجوا به ، قال علي بن المديني : عبد الرحمن بن أبي عمار ثقة مكي ، حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثنا إسماعيل بن أمية ، وابن جريج ، وجرير بن حازم أن عبد الله بن عبيد بن عمير حدثهم ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن أبي عمار أنه سأل جابر بن عبد الله ، عن الضبع ، فقال : أآكللها ؟ فقال : نعم ، قال : أصيد هي ؟ قال : نعم ، قال : سمعت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم ، وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، عن جرير بن حازم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي عمار ، عن جابر ، قال : جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضبع من الصيد ، وجعل فيه إذا أصابه المحرم كبشا ، واحتجوا أيضا بما ذكره ابن وهب ، وعبد الرزاق جميعا قالا : أخبرنا ابن جريج أن نافعا أخبره أن رجلا أخبر [ ص: 154 ] عبد الله بن عمر ، أن سعد بن أبي وقاص كان يأكل الضباع ، فلم ينكره عبد الله بن عمر ، وقال ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه سمع عروة بن الزبير يقول : ما زالت العرب تأكل الضبع ولا ترى بأكلها بأسا ، قالوا : والضبع سبع لا يختلف في ذلك ، فلما أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أكلها علمنا أن نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع ليس من جنس ما أباحه ، وإنما هو نوع آخر ، والله أعلم ، وهو ما الأغلب فيه العداء على الناس ، هذا قول الشافعي ومن تابعه ، قال الشافعي : ذو الناب المحرم أكله هو الذي يعدو على الناس كالأسد ، والنمر ، والذئب قال : ويؤكل الضبع ، والثعلب ، وهو قول الليث بن سعد ، وقال مالك وأصحابه : لا يؤكل شيء من سباع الوحوش كلها ، ولا الهر الوحشي ، ولا الأهلي ; لأنه سبع ، قال : ولا يؤكل الضبع ، ولا الثعلب والضرب ، ولا شيء من سباع الوحش ، ولا بأس بأكل سباع الطير ، زاد ابن عبد الحكم في حكايته قول مالك ، قال : وكل ما يفترس ويأكل اللحم ولا يرعى الكلأ فهو سبع لا يؤكل ، وهذا يشبه السباع التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكلها .

وروي عن أشهب ، عن عبد العزيز أنه قال : لا بأس بأكل الفيل إذا ذكي ، وقال ابن وهب : وقال لي مالك : لم أسمع أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا بأرضنا ينهى عن أكل كل ذي مخلب من الطير ، قال : وسمعت مالكا يقول : لا يؤكل كل ذي ناب من السباع ، قال ابن وهب : وكان الليث بن سعد يقول : يؤكل الهر والثعلب .

[ ص: 155 ] قال أبو عمر : أما اختلاف العلماء في أكل كل ذي مخلب من الطير ، وما يأكل منه الجيف ، فسنذكره في باب نافع عن ابن عمر من كتابنا هذا إن شاء الله عند قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم فذكر منها الغراب ، والحدأة ، وذلك أولى المواضع بذكره ، وبالله العون لا شريك له .

وأما الآثار المرفوعة في النهي عن أكل كل ذي ناب ومخلب من الطير ، فأكثرها معلومة ، وسنذكرها في باب نافع إن شاء الله ، والحجة لمالك وأصحابه في تحريم أكل كل ذي ناب من السباع عموم النهي عن ذلك ، ولم يخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعا من سبع ، فكل ما وقع عليه اسم سبع ، فهو داخل تحت النهي على ما يوجبه الخطاب ، وتعرفه العرب من لسانها في مخاطباتها ، وليس حديث الضبع مما يعارض به حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ; لأنه حديث انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار ، وليس بمشهور بنقل العلم ، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه ، وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة ، عن أبي هريرة ، وأبي ثعلبة ، وغيرهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - روى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الذين تسكن النفس إلى ما نقلوه ، ومحال أن يعارضوا بحديث ابن أبي عمار .

ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : الثعلب سبع لا يؤكل ، قال معمر ، وقال قتادة : ليس بسبع ، ورخص في أكله طاوس ، وعطاء من أجل أنه يؤذي ، وأما العراقيون أبو حنيفة وأصحابه ، فقالوا : ذو الناب المنهي عن أكله الأسد ، والذئب ، والنمر ، والفهد ، والثعلب ، والضبع [ ص: 156 ] والكلب ، والسنور البري ، والأهلي ، والوبر ، قالوا : وابن عرس سبع من سباع الهوام ، وكذلك الفيل ، والدب ، والضبع ، واليربوع .

قال أبو يوسف : فأما الوبر ، فلا أحفظ فيه شيئا عن أبي حنيفة ، وهو عندي مثل الأرنب لا بأس بأكله ; لأنه يعتلف البقول ، والنبات ، وقال أبو يوسف في السنجاب ، والفنك ، والسنور كل ذلك سبع مثل الثعلب ، وابن عرس .

قال أبو عمر : أما الضب فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إجازة أكله ، وفي ذلك ما يدل على أنه ليس بسبع يفترس ، والله أعلم .

ذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرني رجل من ولد سعيد بن المسيب ، قال : أخبرني يحيى بن سعيد ، قال : كنت عند سعيد بن المسيب ، فجاءه رجل من غطفان ، فسأله عن الورل ، فقال : لا بأس به ، وإن كان معكم منه شيء ، فأطعمونا منه ، قال عبد الرزاق : والورل شبه الضب ، وأجاز الشعبي أكل الأسد ، والفيل ، وتلا قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية ، وقد كره أكل الكلب والتداوي به ، وهذا خلاف منه واضطراب ، وكره الحسن وغيره أكل الفيل ; لأنه ذو ناب ، وهم للأسد أشد كراهية ، وكره عطاء ومجاهد وعكرمة أكل الكلب ، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكلب ، قال : طعمة جاهلية ، وقد أغنى الله عنها وذكر ابن عيينة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن يزيد بن عبد الله السعدي ، قال : سألت ابن المسيب ، عن أكل الضبع ، فقال : إن أكلها لا يصلح ، ومعمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه سئل عن أكل اليربوع فلم ير به بأسا ، قال معمر : [ ص: 157 ] وسألت عطاء الخراساني عن اليربوع ، فلم ير به بأسا ، قال : وأخبرنا ابن طاوس ، عن أبيه أنه سئل عن أكل الوبر ، فلم ير به بأسا ، وقال ابن وهب أخبرنا عبد العزيز بن محمد المدني ، قال : بلغني ، عن عامر الشعبي ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحم القرد .

قال أبو عمر : وكرهه ابن عمر ، وعطاء ، ومكحول ، والحسن ، ولم يجيزوا بيعه ، وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب سئل مجاهد عن أكل القرد ، فقال : ليس من بهيمة الأنعام .

قال أبو عمر : لا أعلم بين علماء المسلمين خلافا أن القرد لا يؤكل ، ولا يجوز بيعه لأنه مما لا منفعة فيه ، وما علمنا أحدا أرخص في أكله ، والكلب ، والفيل ، وذو الناب كله عندي مثله ، والحجة في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا في قول غيره ، وما يحتاج القرد ومثله أن ينهى عنه ; لأنه ينهي عن نفسه بزجر الطباع والنفوس لنا عنه ، ولم يبلغنا عن العرب ولا عن غيرهم أكله ، وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل الكلب إلا قوم منهم نفر من فقعس وفي أحدهم قال الشاعر الأسدي :


يا فقعسي لم أكلته لمه لو خافك الله عليه حرمه فما أكلت لحمه ولا دمه

[ ص: 158 ] قال أبو عمر : يعني قوله لو خافك الله عليه حرمه أي إن الكلب عنده كان مما لا يأكله أحد ، ولا يخاف أحدا على أكله إلا المضطر ، والله عز وجل لا يخاف أحدا على شيء ، ولا على غير شيء ، ولا يلحقه الخوف جل وتعالى عن ذلك ، وأظن الشعر لأعرابي لا يقف على مثل هذا من المعنى ، والله أعلم .

حدثنا أحمد بن عبد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا بقي بن مخلد ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، قال : سئل الشعبي عن رجل يتداوى بلحم كلب ، قال : إن تداوى به فلا شفاه الله ، قال : وحدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم أنه أصابه حمى ربع ، فنعت له جنب ثعلب ، فأبى أن يأكله ، قال : وحدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا هشام ، عن الحسن ، قال : الثعلب من السباع .

قال أبو عمر : من رخص في الثعلب ، والهر ، ونحوهما ، فإنما رخص في ذلك لأنها ليست عنده من السباع المحرمة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 159 ] وقد ذكرنا وجه التأويل في ذلك ، وذكرنا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرخصة في أكل الضبع ، وقد جاء عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وسعد في الضبع أنها صيد يفديها المحرم بكبش ، ومعلوم أنها ذات ناب ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن سهيل بن أبي صالح ، قال : جاء رجل من أهل الشام ، فسأل سعيد بن المسيب عن أكل الضبع فنهاه ، فقال له : إن قومك يأكلونها ، فقال : إن قومي لا يعلمون ، قال سفيان : هذا القول أحب إلي ، فقلت لسفيان : فأين ما جاء عن عمر ، وعلي ، وغيرهما ، فقال : أليس قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع ؟ فتركها أحب إلي ، وبه نأخذ .

قال أبو عمر : ليس أحد من خلق الله إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه لا يترك من قوله إلا ما تركه هو ونسخه قولا أو عملا ، والحجة فيما قال صلى الله عليه وسلم ، وليس في قول غيره حجة ، ومن ترك قول عائشة في رضاع الكبير ، وفي لبن الفحل ، وترك قول ابن عباس في العول ، والمتعة ، وغير ذلك من أقاويله ، وترك قول عمر في تضعيف القيمة على المزني ، وفي تبديئه المدعى عليهم باليمين في القسامة ، وفي أن الجنب لا يتيمم ، وغير ذلك من قوله كثير ، وترك قول ابن عمر في أن الزوج لا يهدم التطليقة والتطليقتين ، وكراهية الوضوء من ماء البحر ، وسؤر الجنب والحائض ، وغير ذلك كثير ، وترك قول علي في أن المحدث في الصلاة يبني على ما مضى منها ، وفي أن بني تغلب لا تؤكل ذبائحهم ، وغير ذلك مما روي عنه كيف يتوحش من مفارقة واحد منهم ، ومعه السنة الثابتة ، عن [ ص: 160 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي الملجأ عند الاختلاف ، وغير نكير أن يخفى على الصاحب ، والصاحبين ، والثلاثة السنة المأثورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا ترى أن عمر في سعة علمه ، وكثرة لزومه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خفي عليه من توريث المرأة من دية زوجها ، وحديث دية الجنين ، وحديث الاستئذان ما علمه غيره ، وخفي على أبي بكر حديث الجدة ، فغيرهما أحرى أن تخفى عليه السنة في خواص الأحكام ، وليس شيء من هذا أيضا بضائرهم - رضي الله عنه - وقد كان ابن شهاب يقول وهو حبر عظيم من أحبار هذا الدين ما سمعت بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع حتى دخلت الشام ، والعلم الخاص لا ينكر أن يخفى على العالم حينا .

حدثنا يونس بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا محمد بن الصباح ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ثعلبة الخشني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ، قال سفيان : قال الزهري : ولم أسمع هذا حتى أتيت الشام .

[ ص: 161 ] قال أبو عمر : روى عن خزيمة بن جزي رجل من الصحابة أنه قال : قدمت المدينة ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت : جئت أسألك عن أحفاش الأرض ، قال : سل عما شئت ، فسألته عن الضب ، فقال : لا آكله ، ولا أحرمه ، فقلت : إني آكل ما لم تحرم ، قال : إنها فقدت أمة ، وإني رأيت خلقا رابني ، قال : وسألته عن الأرنب ، فقال : لا آكله ولا أحرمه ، قال : إني آكل ما لم تحرم ، قال : إنها تدمي ، قال : وسألت عن الثعلب ، فقال : ومن يأكل الثعلب ؟ وسألت عن الضبع ، فقال : ومن يأكل الضبع ؟ قال : وسألته عن الذئب ، فقال : أويأكل الذئب أحد ؟ .

وهذا حديث قد جاء إلا أنه لا يحتج بمثله لضعف إسناده ولا يعرج عليه ; لأنه يدور على عبد الكريم بن أبي المخارق ، وليس يرويه غيره ، وهو ضعيف متروك الحديث ، وقد روى من حديث عبد الرحمن بن معقل صاحب الدثنية ، وهو رجل يعد في الصحابة نحو هذا الحديث ، قال : قلت يا رسول الله ما تقول في الضبع ؟ قال : لا آكله ، ولا أنهى عنه ، قال : قلت ما لم تنه عنه فإني آكله ، قال : قلت يا رسول الله ، فما تقول في الضب ؟ قال : لا آكله ولا أنهى عنه ، قال : قلت ما لم تنه عنه فإني آكله ، قال : وقلت ما تقول في الأرنب ؟ قال : لا آكلها ولا أحرمها ، قال : قلت ما لم تحرمه فإني آكله ، قال : قلت يا رسول الله ما تقول في الذئب ؟ قال : أويأكل ذلك أحد ، قال : قلت يا رسول الله ما تقول في الثعلب ؟ قال : أويأكل ذلك أحد ؟ .

[ ص: 162 ] وهو أيضا حديث ضعيف ، وإسناده ليس بالقائم عند أهل العلم ، وهو يدور على أبي محمد رجل مجهول ، وهو حديث لا يصح عندهم ، وعبد الرحمن بن معقل لا يعرف إلا بهذا الحديث ، ولا تصح صحبته ، وإنما ذكرت هذا الحديث والذي قبله ليوقف عليهما ، ولرواية الناس لهما ، ولتبيين العلة فيهما ، وأما جلود السباع المذكاة لجلودها ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك ، فروى ابن القاسم عن مالك أن السباع إذا ذكيت لجلودها حل بيعها ، ولباسها ، والصلاة عليها .

قال أبو عمر : الذكاة عنده في السباع لجلودها أكمل طهارة في هذه الرواية من الدباغ في جلود الميتة ، وهو قول ابن القاسم ، وقال ابن القاسم في المدونة لا يصلى على جلد الحمار وإن ذكي ، وقوله إن الحمار الأهلي لا تعمل فيه الذكاة ، وقال ابن حبيب في كتابه : إنما ذلك في السباع المختلف فيها ، فأما المتفق عليها فلا يجوز بيعها ، ولا لبسها ، ولا الصلاة بها ، ولا بأس بالانتفاع بها إذا ذكيت ; كجلد الميتة المدبوغ ، قال ابن حبيب : ولو أن الدواب الحمير والبغال ذكيت لجلودها لما حل بيعها ، ولا الانتفاع بها ، ولا الصلاة فيها إلا الفرس فإنه لو ذكي لحل بيع جلده ، والانتفاع به للصلاة وغيرها لاختلاف الناس في تحريمه ، وقال أشهب : أكره بيع جلود السباع وإن ذكيت ما لم تدبغ ، قال : وأرى أن يفسخ البيع فيها ، ويفسخ ارتهانها ، وأرى أن يؤدب فاعل ذلك إلا أن يعذر بالجهالة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم أكل كل ذي ناب من السباع ، فالذكاة فيها ليست بذكاة ، وروى أشهب عن مالك في كتاب الضحايا من المستخرجة أن ما لا يؤكل لحمه ، فلا يطهر جلده بالدباغ ، وهذه المسألة [ ص: 163 ] في سماع أشهب وابن نافع ، وسئل مالك : أترى ما دبغ من جلود الدواب طاهرا ؟ فقال : إنما يقال هذا في جلود الأنعام ، فأما جلود ما لا يؤكل لحمه فكيف يكون جلده طاهرا إذا دبغ ، وهو مما لا ذكاة فيه ولا يؤكل لحمه ؟ .

قال أبو عمر : لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بما رواه أشهب عن مالك في جلد ما لا يؤكل لحمه أنه لا يطهر بالدباغ إلا أبا ثور إبراهيم بن خالد الكلبي فإنه قال في كتابه في جلود الميتة : كل ما كان مما لو ذكي حل أكله فمات لم يتوضأ في جلده ، ولم ينتفع بشيء منه حتى يدبغ ، فإذا دبغ فقد طهر ، قال : وما لا يؤكل لو ذكي لم يتوضأ في جلده وإن دبغ ، قال : وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في جلد شاة ماتت : ألا دبغتم جلدها فانتفعتم به ؟ ونهى عن جلود السباع ، قال : فلما روي الخبران أخذنا بهما جميعا ; لأن الكلامين جميعا لو كانا في مجلس واحد كان كلاما صحيحا ، ولم يكن فيه تناقض ، قال : ولا أعلم خلافا أنه لا يتوضأ في جلد خنزير وإن دبغ ، فلما كان الخنزير حراما لا يحل أكله وإن ذكي ، وكانت السباع لا يحل أكلها وإن ذكيت ، كان حراما أن ينتفع بجلودها وإن دبغت ، وأن يتوضأ فيها ، قياسا على ما أجمعوا عليه من الخنزير إذ كانت العلة واحدة .

[ ص: 164 ] وذكر عن هشيم ، عن منصور ، عن الحسن أن عليا كره الصلاة في جلود البغال .

قال أبو عمر : ما قاله أبو ثور صحيح في الذكاة ، أنها لا تعمل فيما لا يحل أكله إلا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - كل إهاب دبغ فقد طهر قد دخل فيه كل جلد ، إلا أن جمهور السلف أجمعوا على أن جلد الخنزير لا يدخل في ذلك ، فخرج بإجماعهم هذا ، إن صح أن للخنزير جلدا يوصل إليه ويستعمل ، وإن كان أصحابنا قد اختلفوا في ذلك على ما سنذكره ونوضحه في باب حديث زيد بن أسلم ، عن ابن وعلة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كل إهاب دبغ فقد طهر إن شاء الله .

والحديث الذي ذكر أبو ثور في النهي عن جلود السباع حدثناه جماعة ، منهم عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثا مسدد ، قال : حدثنا يحيى القطان ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي المليح بن أسامة ، عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جلود السباع ، وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وحكاه أيضا عن أشهب : لا يجوز تذكية السباع ، وإن ذكيت لجلودها لم يحل الانتفاع بشيء من جلودها ، إلا أن يدبغ .

[ ص: 165 ] قال أبو عمر : قول ابن عبد الحكم ، وما حكاه أيضا عن أشهب في تذكية السباع عليه جمهور الفقهاء من أهل النظر والأثر بالحجاز ، والعراق ، والشام ، وهو الصحيح ، وهو الذي يشبه أصل مالك في ذلك ، ولا يصح أن يتقلد غيره ; لوضوح الدليل عليه ، ولو لم يختبر ذلك إلا بما ذبحه المحرم ، أو ذبح في الحرام أن ذلك لا يكون ذكاة للمذبوح للنهي الوارد فيه ، وبالخنزير أيضا ، وقد أجمع المسلمون أن الخلاف ليس بحجة ، وأن عنده يلزم طلب الدليل والحجة ; ليتبين الحق منه ، وقد بان الدليل الواضح من السنة الثابتة في تحريم السباع ، ومحال أن تعمل فيها الذكاة ، وإذا لم تعمل فيها الذكاة ، فأكثر أحوالها أن تكون ميتة فتطهر بالدباغ ، هذا أولى الأقاويل في هذا الباب ، ولما رواه أشهب عن مالك وجه أيضا ، وأما ما رواه ابن القاسم عن مالك فلا وجه له يصح إلا ما ذكروا من تأويلهم في النهي أنه على التنزه لا على التحريم ، وهذا تأويل ضعيف لا يعضده دليل .




الخدمات العلمية