الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر بيعة العقبة الأولى وإسلام سعد بن معاذ

فلما أراد الله إظهار دينه وإنجاز وعده خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار ، فعرض نفسه على القبائل كما كان يفعله ، فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وقد كانت يهود معهم ببلادهم ، وكان هؤلاء أهل أوثان ، فكانوا إذا كان بينهم شر تقول اليهود : إن نبيا يبعث الآن نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود . فقال أولئك النفر بعضهم لبعض : هذا والله النبي الذي توعدكم به اليهود ، فأجابوه وصدقوه وقالوا له : إن بين قومنا شرا ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، فإن اجتمعوا عليك فلا رجل أعز منك . ثم انصرفوا عنه ، وكانوا سبعة نفر من الخزرج : أسعد بن زرارة بن عدس أبو أمامة ، وعوف بن الحارث بن رفاعة ، وهو ابن عفراء ، كلاهما من بني النجار ، ورافع بن مالك بن عجلان ، وعامر بن عبد حارثة بن ثعلبة بن غنم ، كلاهما من بني زريق ، وقطبة بن عامر بن حديد بن سواد من بني سلمة - سلمة هذا بكسر اللام - وعقبة بن عامر بن نابئ من بني غنم ، وجابر بن عبد الله بن رياب من بني عبيدة .

( رياب : بكسر الراء والياء المعجمة باثنتين من تحت والياء الموحدة ) .

فلما قدموا المدينة ذكروا لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ، حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا ، فلقوه بالعقبة ، [ ص: 690 ] وهي العقبة الأولى ، فبايعوه بيعة النساء ، وهم : أسعد بن زرارة ، وعوف ومعاذ ابنا الحارث ، وهما ابنا عفراء ، ورافع بن مالك بن عجلان ، وذكوان بن عبد قيس من بني زريق ، وعبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج ، ويزيد بن ثعلبة بن خزمة أبو عبد الرحمن من بلي حليف لهم ، وعباس بن عبادة بن نضلة من بني سالم ، وعقبة بن عامر بن نابئ ، وقطبة بن عامر بن حديدة ، وهؤلاء من الخزرج ، وشهدها من الأوس أبو الهيثم بن التيهان ، حليف لبني عبد الأشهل ، وعويم بن ساعدة حليف لهم .

فانصرفوا عنه ، وبعث - صلى الله عليه وسلم - معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ، فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة ، فخرج به أسعد بن زرارة فجلس في دار بني ظفر ، واجتمع عليهما رجال ممن أسلم ، فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما سيدا بني عبد الأشهل ، وكلاهما مشرك ، فقال سعد لأسيد : انطلق إلى هذين الذين أتيا دارنا فانههما ، فإنه لولا أسعد بن زرارة ، وهو ابن خالتي ، كفيتك ذلك ، فأخذ أسيد حربته ثم أقبل عليهما ، فقال : ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلا عنا . فقال مصعب : أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كف عنك ما تكره ! فقال أنصفت . ثم جلس إليهما ، فكلمه مصعب بالإسلام ، فقال : ما أحسن هذا وأجله ! كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين ؟ قالا : تغتسل وتطهر ثيابك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين ، ففعل ذلك وأسلم . ثم قال لهما : إن ورائي رجلا إن تبعكما لم يتخلف عنكما أحد من قومه ، وسأرسله إليكما ، سعد بن معاذ .

ثم انصرف إلى سعد وقومه ، فلما نظر إليه سعد قال : أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ! فقال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلمت الرجلين ، والله ما رأيت بهما بأسا ، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، فقام سعد مغضبا مبادرا لخوفه مما ذكر له ، ثم خرج إليهما ، فلما رآهما مطمئنين عرف ما أراد أسيد ، فوقف عليهما وقال لأسعد بن زرارة : لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني . فقال له مصعب : أوتقعد فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ! فعرض عليه مصعب الإسلام ، وقرأ عليه القرآن فقال لهما : كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين ؟ فقالا له ما قالا لأسيد ، فأسلم وتطهر ، ثم عاد إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير ، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري منكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا . قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا [ ص: 691 ] بالله ورسوله . قال : فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة .

ورجع مصعب إلى منزل أسعد ، ولم يزل يدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من بني أمية بن زيد ووائل وواقف ، فإنهم أطاعوا أبا قيس بن الأسلت ، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومضت بدر وأحد والخندق ، وعاد مصعب إلى مكة .

( أسيد : بضم الهمزة ، وفتح السين ، وحضير : بضم الحاء المهملة ، وفتح الضاد المعجمة ، وتسكين الياء تحتها نقطتان ، وفي آخره راء ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية