الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الحادي عشر : قال الخطابي في كتابه - وإليه ذهب الأكثرون من علماء [ ص: 233 ] النظر : إن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة ، لكن لما صعب عليهم تفصيلها صغوا فيه إلى حكم الذوق والقبول عند النفس .

قال : والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ، ومراتبها في درجة البيان متفاوتة ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز الطلق الرسل ، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود . فالقسم الأول أعلاه ، والثاني أوسطه ، والثالث أدناه وأقربه ، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة ، وأخذت من كل نوع شعبة ، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة ، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين ; لأن العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة يعالجان نوعا من الوعورة ; فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن ، ليكون آية بينة لنبيه .

وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور :

منها ; أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني ، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض ، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها ، إلا أن يأتوا بكلام مثله .

وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة : لفظ حامل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم .

وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ; حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه . وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقديم في أبوابه ، والرقي في أعلى درجاته .

وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام ، وأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير .

[ ص: 234 ] فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف ، مضمنا أصح المعاني ، من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ، ودعاء إلى طاعته ، وبيان لطريق عبادته في تحليل وتحريم ، وحظر وإباحة ، ومن وعظ وتقويم ، وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم ، منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان ، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له ، والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه ، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه .

ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور ، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق ، أمر تعجز عنه قوى البشر ، ولا تبلغه قدرتهم ، فانقطع الخلق دونه ، وعجزوا عن معارضته بمثله ، ومناقضته في شكله ، ثم صار المعاندون له يقولون مرة : إنه شعر لما رأوه منظوما ، ومرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه ، غير مقدور عليه . وقد كانوا يجدون له وقعا في القلب ، وقرعا في النفس ، يريبهم ويحيرهم ، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف ، ولذلك قالوا : إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة . وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ( الفرقان : 5 ) مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب شيئا ; ونحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز .

وقد حكى الله تعالى عن بعض مردتهم ، وهو الوليد بن المغيرة المخزومي ، [ ص: 235 ] أنه لما طال فكره في القرآن وكثر ضجره منه ، وضرب له الأخماس من رأيه في الأسداس ، فلم يقدر على أكثر من قوله : إن هذا إلا قول البشر ( المدثر : 25 ) عنادا وجهلا به ، وذهابا عن الحجة ، وانقطاعا دونها .

ثم اعلم أن عمود البلاغة التي تجتمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به ، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه ، إما تبدل المعنى الذي يفسد به الكلام ، أو إذهاب الرونق الذي تسقط به البلاغة ، وذلك أن في الكلام ألفاظا مترادفة متقاربة المعاني في زعم أكثر الناس ، كالعلم والمعرفة ، والشح والبخل ، والنعت والصفة ، وكذا بلى ونعم ، ومن وعن ، ونحوها من الأسماء والأفعال والحروف ; والأمر فيها عند الحذاق بخلاف ذلك ، لأن كل لفظة منها خاصة تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها ، وإن اشتركا في بعضها .

ولهذا قال أبو العالية في قوله تعالى : الذين هم عن صلاتهم ساهون ( الماعون : 5 ) إنه الذي ينصرف ولا يدري عن شفع أو وتر ، فرد عليه الحسن بأنه لو كان كذلك لقال : الذين هم في صلاتهم فلم يفرق أبو العالية بين ( في ) و ( عن ) حتى تنبه له الحسن وقال : المراد به إخراجها عن وقتها .

فإن قيل : فهلا جعل في كل سورة نوعا من الأنواع ؟ قيل : إنما أنزل القرآن على هذه الصفة من جمع أشياء مختلفة المعاني في السورة الواحدة ، وفي الآي المجموعة القليلة العدد ، ليكون أكثر لفائدته ، وأعم لمنفعته ، ولو كان لكل باب منه قبيل ، ولكل معنى سورة مفردة ، لم تكثر عائدته ، ولكان الواحد من الكفار المنكرين والمعاندين إذا سمع [ ص: 236 ] السورة لا تقوم عليه الحجة به إلا في النوع الواحد الذي تضمنته السورة الواحدة فقط ، وكان في اجتماع المعاني الكثيرة في السورة الواحدة أوفر حظا ، وأجدى نفعا من التخيير لما ذكرناه .

قال الخطابي : وقلت : في إعجاز القرآن وجها ذهب عنه الناس وهو صنيعه بالقلوب ، وتأثيره في النفوس ، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ، ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه . قال الله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ( الحشر : 21 ) وقال تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم الآية ( الزمر : 23 ) .

قلت : ولهذا أسلم جبير بن مطعم لما سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للطور حتى انتهى إلى قوله : إن عذاب ربك لواقع ( الطور : 7 ) قال : خشيت أن يدركني العذاب . وفي لفظ : كاد قلبي يطير ، فأسلم . وفى أثر آخر أن عمر لما سمع سورة طه أسلم ، وغير ذلك .

وقد صنف بعضهم كتابا فيمن مات بسماع آية من القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية