[ ص: 540 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْحَدِيدِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .
قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ سَبَحَ إِذَا صَارَ بَعِيدًا ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْفَرَسِ : سَابِحٌ ، لِأَنَّهُ إِذَا جَرَى يَبْعُدُ بِسُرْعَةٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ
عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ :
إِذْ لَا أَزَالُ عَلَى رِحَالَةِ سَابِحٍ نَهْدٍ تَعَاوَرُهُ الْكُمَاةُ مُكَلَّمِ
وَقَوْلُ
عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ :
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ حَوْلَهُمُ وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُ
إِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مُقْرَبَةً فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْفِكَرُ
وَهَذَا الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ " سَبَّحَ " قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِدُونِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=42وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [ 33 \ 42 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=26وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [ 76 \ 26 ] ، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ هُنَا : سَبَّحَ لِلَّهِ ، وَعَلَى هَذَا فَسَبَّحَهُ وَسَبَّحَ لَهُ لُغَتَانِ كَنَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ . وَشَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، أَيْ أَحْدَثَ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ أَيِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ تَعَالَى ، ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ ، وَقِيلَ : سَبَّحَ لِلَّهِ أَيْ صَلَّى لَهُ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ لِلَّهِ ، أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ - بَيَّنَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=1سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْآيَةَ [ 59 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي الصَّفِّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=1سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْآيَةَ [ 61 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي الْجُمُعَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=1يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الْآيَةَ [ 62 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي التَّغَابُنِ
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=1يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْآيَةَ [ 64 \ 1 ] .
وَزَادَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ يُسَبِّحْنَ لِلَّهِ مَعَ مَا فِيهِمَا
[ ص: 541 ] مِنَ الْخَلْقِ وَأَنَّ تَسْبِيحَ السَّمَاوَاتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْجَمَادَاتِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَفْقَهُهُ أَيْ لَا نَفْهَمُهُ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [ 17 \ 44 ] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ الْمَذْكُورَ فِيهَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=79وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ [ 21 \ 79 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ .
وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا الرَّدُّ الصَّرِيحُ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ هُوَ دَلَالَةُ إِيجَادِهَا عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْكَائِنَاتِ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا يَفْهَمُهَا كُلُّ الْعُقَلَاءِ ، كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=15وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ الْآيَةَ [ 13 \ 15 ] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=77فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ الْآيَةَ [ 18 \ 77 ] ، وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=72إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الْآيَةَ [ 23 \ 72 ] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .
وَقَدْ عَبَّرَ تَعَالَى هُنَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيدِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1سَبَّحَ لِلَّهِ الْآيَةَ [ 57 \ 1 ] ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْحَشْرِ ، وَالصَّفِّ ، وَعَبَّرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ ، وَغَيْرِهِمَا بِقَوْلِهِ : يُسَبِّحُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي تَارَةً وَبِالْمُضَارِعِ أُخْرَى لِيُبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ هُوَ شَأْنُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ ، وَدَأْبُهُمْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ . ذَكَرَ مَعْنَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ 57 \ 1 ] ، قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَاهُ مِرَارًا ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْغَلَبَةُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=8وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [ 63 \ 8 ] ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=23وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ، أَيْ : غَلَبَنِي فِي الْخِصَامِ ، وَمِنْ أمْثَالِ الْعَرَبِ : مَنْ عَزَّ بَزَّ ، يَعْنُونَ : مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ
الْخَنْسَاءِ :
[ ص: 542 ] كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا
وَالْحَكِيمُ : هُوَ مَنْ يَضَعُ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعِهَا وَيُوقِعُهَا فِي مَوَاقِعِهَا .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ 57 \ 1 ] ، غُلِّبَ فِيهِ غَيْرُ الْعَاقِلِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يُغَلِّبُ غَيْرَ الْعَاقِلِ ، فِي نَحْوِ : " مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " لِكَثْرَتِهِ ، وَتَارَةً يُغَلِّبُ الْعَاقِلَ لِأَهَمِّيَّتِهِ . وَقَدْ جَمَعَ الْمِثَالُ لِلْأَمْرَيْنِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=116بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ الْآيَةَ [ 2 \ 116 ] ، فَغَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=116مَا فِي السَّمَاوَاتِ ، وَغَلَّبَ الْعَاقِلَ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=116قَانِتُونَ .