الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( ولا تجب على المقيم في موضع لا يسمع النداء من البلد الذي تقام فيها الجمعة أو القرية التي تقام فيها الجمعة لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { الجمعة على من سمع النداء } والاعتبار في سماع النداء أن يقف المؤذن في طرف البلد والأصوات هادئة ، والريح ساكنة ، وهو مستمع فإذا سمع لزمه ، وإن لم يسمع لم يلزمه )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : هذا الحديث رواه أبو داود وغيره .

                                      قال أبو داود : وروي [ ص: 353 ] موقوفا على ابن عمرو ، والذي رفعه ثقة .

                                      قال البيهقي وله شاهد - فذكر حديثا شاهدا له - وراوي الحديث الذي ذكره المصنف عبد الله بن عمرو بن العاص ، وإنما نبهت عليه لئلا يصحف بابن عمر بن الخطاب ، وفي النداء لغتان كسر النون وضمها والكسر أفصح وأشهر .

                                      قال الشافعي والأصحاب : إذا كان في البلد أربعون فصاعدا من أهل الكمال وجب الجمعة على كل من فيه وإن اتسعت خطة البلد فراسخ ، وسواء سمع النداء أم لا ، وهذا مجمع عليه ، أما المقيمون في غير قرية ونحوها فإن بلغوا أربعين من أهل الكمال لزمتهم الجمعة بلا خلاف ، فإن فعلوها في قريتهم فقد أحسنوا ، وإن دخلوا البلد وصلوها مع أهله سقط الفرض عنهم .

                                      قال الشافعي والأصحاب : وكانوا مسيئين بتعطيلهم الجمعة في قريتهم ، هذا هو المذهب ، وفيه وجه ضعيف حكاه الغزالي والرافعي أنهم غير مسيئين ; لأن أبا حنيفة لا يجوز الجمعة في قرية ففيما فعلوه خروج من الخلاف ، وغلط الأصحاب قائله .

                                      أما إذا نقصوا عن أربعين من أهل الكمال فلهم حالان .

                                      ( أحدهما ) : أن لا يبلغهم النداء من قرية تقام فيها جمعة فلا جمعة عليهم ، حتى لو كانت قريتان أو قرى متقاربة يبلغ بعضها النداء من بعضها ، وكل واحدة ينقص أهلها عن أربعين لم تصح الجمعة باجتماعهم في بعضها بلا خلاف ; لأنهم غير متوطنين في محل الجمعة .

                                      ( الثاني ) : أن يبلغهم النداء من قرية أو بلدة تقام فيها الجمعة فيلزمهم الجمعة قال الشافعي والأصحاب : المعتبر نداء رجل عالي الصوت يقف على طرف البلد من الجانب الذي يلي تلك القرية ، ويؤذن والأصوات هادئة والرياح ساكنة ، فإذا سمع صوته من وقف في طرف تلك القرية الذي يلي بلد الجمعة وقد أصغى إليه ولم يكن في سمعه خلل ولا جاوز سمعه في الجودة عادة الناس وجبت الجمعة على كل من في القرية وإلا فلا ، وفي وجه مشهور أن المعتبر أن يقف في وسط البلد الذي فيه الجمعة .

                                      ووجه ثالث : المعتبر وقوفه في نفس الموضع الذي يصلي فيه الجمعة ، واتفق الأصحاب على ضعف الوجهين [ ص: 354 ] قال إمام الحرمين : هذا الوجه ساقط ; لأن البلد قد يتسع خطته بحيث إذا وقف المنادي في وسط لا يسمعه الطرف ، فكيف يتعدى إلى قرية .

                                      قال أصحابنا : ولا يعتبر وقوفه على موضع عال كمنارة أو سور ونحوهما ، وهكذا أطلقه الأصحاب .

                                      وقال القاضي أبو الطيب : قال أصحابنا ، لا يعتبر ذلك إلا أن يكون البلد كطبرستان فإنها بين غياض وأشجار تمنع الصوت ، فيعتبر فيها الارتفاع على شيء يعلو الغياض والأشجار ، ولو بلغ النداء من وقف في طرف القرية دون من وقف في وسطها لزم جميع أهل القرية الجمعة ، صرح به إمام الحرمين والمتولي وغيرهما ; لأن القرية الواحدة لا يختلف حكمها قال الإمام وغيره : ولو كان فيهم من جاوز العادة في حدة السماع فلا تعويل على سماعه ، ولو كانت قرية على قلة جبل فسمع أهلها النداء لعلوها بحيث لو كانت على أرض مستوية لم يسمعوا ، أو كانت قرية في واد ونحوه لا يسمع أهلها النداء لانخفاضها ، ولو كانت على أرض مستوية لسمعوا فوجهان ( أصحهما ) : وبه قال القاضي أبو الطيب الاعتبار بتقدير الاستواء ، فلا تجب الجمعة على العالية ، وتجب على المنخفضة .

                                      ( والثاني ) : عكسه اعتبارا بنفس السماع ، وبه قال الشيخ أبو حامد والبندنيجي أما إذا سمع أهل القرية الناقصون عن أربعين النداء من بلدين فأيهما حضروه جاز والأولى حضور أكثرهما جماعة ، والله أعلم



                                      فرع في مذاهب العلماء فيمن تجب عليه الجمعة إذا كان خارج البلد ونقص عددهم عن أربعين قد ذكرنا أن مذهبنا وجوبها على من بلغه نداء البلد دون غيره ، وبه قال ابن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق ، قال ابن المنذر : وقال ابن عمر بن الخطاب وأنس وأبو هريرة ومعاوية والحسن ونافع مولى ابن عمر وعكرمة وعطاء والحكم والأوزاعي وأبو ثور : تجب على من يمكنه إذا فعلها أن يرجع إلى أهله فيبيت فيهم ، وقال الزهري : تجب على من بينه وبين البلد ستة أميال .

                                      وقال مالك والليث : ثلاثة أميال وقال محمد بن المنذر وربيعة أربعة أميال ، وهي رواية عن الزهري ، وقال أبو حنيفة وسائر [ ص: 355 ] أهل الرأي ، لا تجب على من هو خارج البلد سواء سمع النداء أم لا .

                                      وحكى الشيخ أبو حامد عن عطاء أنها تجب على من هو على عشرة أميال .

                                      واحتج لأبي حنيفة بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر } واحتج لابن عمر وموافقيه بحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : الجمعة على من آواه الليل إلى أهله } دليلنا : حديث ابن عمرو بن العاص المذكور في الكتاب .

                                      ، وأما حديث { لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر } فجوابه من وجهين : ( أحدهما ) : أنه ضعيف جدا ( والثاني ) : لو صح لكان معناه لا تصح إلا في مصر ، وأما حديث أبي هريرة فضعيف جدا ، وممن ضعفه الترمذي والبيهقي ، وفي إسناده رجل منكر الحديث ، وآخر مجهول ، قال الترمذي : ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء . .




                                      الخدمات العلمية