الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله [ ص: 773 ] والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما

                                                                                                                                                                                                                                      هذا الدرس حلقة من سلسلة التربية المنهجية، التي تولتها يد الرعاية الإلهية; لإخراج الأمة التي قال الله فيها:

                                                                                                                                                                                                                                      كنتم خير أمة أخرجت للناس .. وهي حلقة من المنهج الثابت المطرد الخطو، المرسوم الأهداف لمعالجة النفس البشرية بالدواء الذي صنعه صانع هذه النفس - سبحانه - الخبير بدروبها ومنحنياتها، البصير بطبيعتها وحقيقتها، العليم بضروراتها وأشواقها، وبمقدراتها وطاقاتها..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الحلقة كما ترسم قواعد المنهج واتجاهاته الثابتة، الموضوعة للناس جميعا، في أجيالهم كلها، لترفعهم من سفوح الجاهلية - حسب مكانهم في الدرج - وتعرج بهم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة.. هي [ ص: 774 ] كذلك - في الوقت ذاته - ترتسم فيها حال الجماعة المسلمة الأولى، المخاطبة بهذا القرآن; وتبرز من بين السطور صورة لهذه الجماعة إذ ذاك - كما هي - بكل ما فيها من بشرية. وبكل ما في بشريتها من ضعف وقوة; ومن رواسب جاهلية ومشاعر فطرية.. وتبرز كذلك طريقة المنهج في علاجها وتقويتها وتثبيتها على الحق الذي تمثله; بكل ما في وقفتها مع الحق من جهد وتضحية.

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدأ الدرس بنداء الجماعة المؤمنة إلى النهوض بتكاليف دورها، في إقامة العدل بين الناس على النحو الفريد الذي لم يقم إلا على يد هذه الجماعة ، العدل الذي تتعامل فيه الجماعة مع الله مباشرة; متخلصة من كل عاطفة أو هوى أو مصلحة - بما في ذلك ما يسمى مصلحة الجماعة أو الأمة أو الدولة! - متجردة من كل اعتبار آخر غير تقوى الله ومرضاته.. العدل الذي رأينا نموذجا منه في الدرس العملي الذي ألقاه الله - سبحانه - بذاته العلية على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى الجماعة المسلمة في حادث اليهودي الذي سلف ذكره.

                                                                                                                                                                                                                                      يبدأ الدرس بنداء الذين آمنوا ليقيموا هذا العدل.. بصورته هذه.. ومنزل هذا القرآن يعلم حقيقة المجاهدة الشاقة، التي تتكلفها إقامة العدل على هذا النحو. وفي النفس البشرية ضعفها المعروف، وعواطفها تجاه ذاتها وتجاه الأقارب; وتجاه الضعاف من المتقاضين وتجاه الأقوياء أيضا. تجاه الوالدين والأقربين، وتجاه الفقير والغني; تجاه المودة وتجاه الشنآن.. ويعلم أن التجرد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق. جهاد للصعود إلى هذه القمة على سفوح ملساء! لا تتعلق فيها النفس بشيء إلا بحبل الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يدعوهم دعوة ثانية إلى الإيمان بعناصر الإيمان الشامل. بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ولكل عنصر من هذه العناصر قيمته في تكوين العقيدة الإيمانية; وقيمته في تكوين التصور الإسلامي، المتفوق على جميع التصورات الأخرى، التي عرفتها البشرية - قبل الإسلام وبعده - وهو ذاته التفوق الذي انبعث منه كل تفوق آخر أخلاقي أو اجتماعي أو تنظيمي، في حياة الجماعة المسلمة الأولى. والذي يحمل عنصر التفوق دائما لكل جماعة تؤمن به حقا وتعمل بمقتضياته كاملة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. حيث تحق كلمة الله - في هذا الدرس نفسه - ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد هذين النداءين يأخذ السياق في حملة منوعة الأساليب على المنافقين - من بقي منهم على حالة النفاق، ومن أعلن كفره بعد إعلان إسلامه - حملة يصور فيها طبيعة المنافقين، ويرسم لهم فيها صورا زرية، من واقع ما يقومون به في الصف المسلم; ومن واقع مواقفهم المتلونة حسب الظروف. وهم يلقون المسلمين - إذا انتصروا - بالملق والنفاق. ويلقون الذين كفروا - إذا انتصروا كذلك - بدعواهم أنهم سبب انتصارهم! وهم يقومون للصلاة كسالى يراءون الناس. وهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وترد في ثنايا هذه الحملة توجيهات للمؤمنين وتحذيرات. تدل على مدى ما كان لأفاعيل المنافقين في الصف المسلم - حينذاك - من آثار، وعلى مدى ضخامة الجبهة المنافقة وتغلغلها في حياة الجماعة المسلمة; مما استدعى هذه الحملة، مع مراعاة "الواقع" يومئذ، وأخذ المسلمين خطوة خطوة في الابتعاد عن المنافقين واجتنابهم. من ذلك أمرهم باجتناب مجالس المنافقين التي يتداولون فيها الكفر بآيات الله والاستهزاء بها. ولم يأمرهم - حينذاك - بمقاطعة المنافقين البتة. مما يدل على أن جبهة النفاق كانت ضخمة ومتغلغلة بصورة يصعب فيها على المسلمين مقاطعتهم!

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك ترد في ثناياها تحذيرات للمسلمين من سمات النفاق ومقدماته; كي لا يقعوا فيها. وأخصها موالاة الكافرين، وابتغاء العزة عندهم، والقوة بهم! وتأمينهم بأن العزة لله جميعا، وبأن الله لن يجعل للكافرين [ ص: 775 ] على المؤمنين سبيلا، وذلك مع رسم الصور البشعة للمنافقين في الدنيا وفي الآخرة. وتقرير أن مكانهم في الدرك الأسفل من النار.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه التوجيهات والتحذيرات - بهذا الأسلوب - تشي بطريقة المنهج في علاج النفوس والأوضاع; وتغيير الواقع في حدود الطاقة والملابسات القائمة كذلك، حتى ينتهي إلى تغييره نهائيا وإقامة "واقع" آخر جديد. كما تشي بحالة الجماعة المسلمة حينذاك وموقفها من جبهة الكفر وجبهة النفاق المتعاونتين في حرب الجماعة المسلمة والدين الجديد.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن خلال هذه وتلك تتبين طبيعة المعركة التي كان القرآن يخوض بها الجماعة المسلمة، وطبيعة الأساليب المنهجية في قيادته للمعركة وللنفوس.. وهي المعركة الدائمة المتصلة بين الإسلام والجاهلية في كل زمان وكل مكان. وبين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين تتغير أشخاصهم ووسائلهم ولكن لا تتغير طبيعتهم ومبادئهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن خلال هذا كله تبرز حقيقة هذا الكتاب.. القرآن.. ودوره في قيادة الأمة المسلمة. ليس بالأمس فقط; فما جاء ليقود جيلا دون جيل. إنما جاء ليقود هذه الأمة، وليكون مرشدها وهاديها، في جميع الأجيال والدهور..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي نهاية الدرس تجيء تلك اللفتة العجيبة إلى استغناء الله - سبحانه - عن تعذيب العباد.. فهو لا يطلب منهم إلا أن يؤمنوا ويشكروا. وهو سبحانه غني عن إيمانهم وشكرهم. ولكن ذلك إنما هو لصلاح حالهم، وارتقاء مستواهم; حتى يتأهلوا لحياة الآخرة، ومستوى النعيم في الجنة. فإذا هم ارتكسوا وانتكسوا فإنما يؤهلون أنفسهم لمستوى العذاب في الجحيم. حيث يسقط المنافقون إلى أحط الدركات في الدرك الأسفل من النار ..

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين - إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا. وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه نداء للذين آمنوا. نداء لهم بصفتهم الجديدة. وهي صفتهم الفريدة. صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى; وولدوا ميلادا آخر. ولدت أرواحهم، وولدت تصوراتهم، وولدت مبادئهم وأهدافهم، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم.. أمانة القوامة على البشرية، والحكم بين الناس بالعدل.. ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه: يا أيها الذين آمنوا فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى. وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى..

                                                                                                                                                                                                                                      وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم تسبق التكليف الشاق الثقيل:

                                                                                                                                                                                                                                      كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين. إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها أمانة القيام بالقسط.. بالقسط على إطلاقه. في كل حال وفي كل مجال. القسط الذي يمنع البغي والظلم - في الأرض - والذي يكفل العدل - بين الناس - والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين.. ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين - كما رأينا في قصة اليهودي - ويتساوى الأقارب والأباعد. ويتساوى الأصدقاء والأعداء. ويتساوى الأغنياء والفقراء.. [ ص: 776 ] كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله ..

                                                                                                                                                                                                                                      حسبة لله. وتعاملا مباشرا معه. لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم. ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة. ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية. ولكن شهادة لله، وتعاملا مع الله. وتجردا من كل ميل، ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها، وفي وجه عواطفها، تجاه ذاتها أولا، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيا.. وهي محاولة شاقة.. أشق كثيرا من نطقها باللسان، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل.. إن مزاولتها عمليا شيء آخر غير إدراكها عقليا. ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعيا.. ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة. لأنها لا بد أن توجد. لا بد أن توجد في الأرض هذه القاعدة. ولا بد أن يقيمها ناس من البشر.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية; حين يكون المشهود له أو عليه فقيرا، تشفق النفس من شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه. أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية. وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا; تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته. أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده! وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع.. والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات، وحب الوالدين والأقربين.

                                                                                                                                                                                                                                      إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهي محاولة شاقة.. ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة.. وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين - في عالم الواقع - إلى هذه الذروة، التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ كان ينشئ معجزة حقيقية في عالم البشرية. معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم.

                                                                                                                                                                                                                                      فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ..

                                                                                                                                                                                                                                      والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها.. حب الذات هوى. وحب الأهل والأقربين هوى. والعطف على الفقير - في موطن الشهادة والحكم - هوى. ومجاملة الغني هوى. ومضارته هوى. والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن - في موضع الشهادة والحكم - هوى. وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين - في موطن الشهادة والحكم - هوى.. وأهواء شتى الصنوف والألوان.. كلها مما ينهى الله الذين آمنوا عن التأثر بها، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخيرا يجيء التهديد والإنذار والوعيد من تحريف الشهادة، والإعراض عن هذا التوجيه فيها..

                                                                                                                                                                                                                                      وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله خبير بما يعمل، ليستشعر ماذا وراء هذا من تهديد خطير، يرتجف له كيانه.. فقد كان الله يخاطب بهذا القرآن المؤمنين!

                                                                                                                                                                                                                                      حدث أن عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة، حسب عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح خيبر .. أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم! فقال لهم: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي. [ ص: 777 ] ولأنتم والله أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير. وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم، على أن لا أعدل فيكم" .. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض!

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان - رضي الله عنه - قد تخرج في مدرسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المنهج الرباني المنفرد. وكان إنسانا من البشر خاض هذه التجربة الشاقة ونجح; وحقق - كما حقق الكثيرون غيره في ظل ذلك المنهج - تلك المعجزة التي لا تقع إلا في ظل ذلك المنهج!

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد مضت القرون تلو القرون بعد تلك الفترة العجيبة; وحفلت المكتبات بكتب الفقه والقانون; وحفلت الحياة بالتنظيمات والتشكيلات القضائية; وضبط الإجراءات والشكليات التنظيمية. وامتلأت الرؤوس بالكلام عن العدالة; وامتلأت الأفواه بالحديث عن إجراءاتها الطويلة.. ووجدت نظريات وهيئات وتشكيلات منوعة لضبط هذا كله..

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن التذوق الحقيقي لمعنى العدالة; والتحقق الواقعي لهذا المعنى في ضمائر الناس وفي حياتهم; والوصول إلى هذه الذروة السامقة الوضيئة.. لم يقع إلا في ذلك المنهج.. في تلك الفترة العجيبة في ذروة القمة.. وبعدها على مدار التاريخ في الأرض التي قام فيها الإسلام. وفي القلوب التي عمرت بهذه العقيدة. وفي الجماعات والأفراد التي تخرجت على هذا المنهج الفريد.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه حقيقة ينبغي أن يتنبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جدت; وبالإجراءات القضائية التي استحدثت; وبالأنظمة والأوضاع القضائية التي نمت وتعقدت. فيحسبون أن هذا كله أقمن بتحقيق العدالة وأضمن مما كان في تلك الإجراءات البسيطة في تلك الفترة الفريدة! في تلك القرون البعيدة! وأن الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة!

                                                                                                                                                                                                                                      هذا وهم تنشئه الأشكال والأحجام في تصورات من لا يدركون حقائق الأشياء والأوضاع.. إن المنهج الرباني وحده هو الذي يبلغ بالناس ما بلغ على بساطة الأشكال وبساطة الأوضاع.. وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالناس هذا المستوى على ما استحدث من الأشكال والأوضاع!

                                                                                                                                                                                                                                      وليس معنى هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة. ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات. ولكن للروح التي وراءها. أيا كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها.. والفضل للأفضل بغض النظر عن الزمان والمكان!!!

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي نزل على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل.. ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.. فقد ضل ضلالا بعيدا ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه النداء الثاني للذين آمنوا. بصفتهم هذه التي تفردهم من الجاهلية حولهم. وتحدد وظيفتهم وتكاليفهم. وتصلهم بالمصدر الذي يستمدون منه القوة والعون على هذه التكاليف!

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي نزل على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهو بيان لعناصر الإيمان التي يجب أن يؤمن بها الذين آمنوا. بيان للتصور الإسلامي الاعتقادي:

                                                                                                                                                                                                                                      فهو إيمان بالله ورسوله. يصل قلوب المؤمنين بربهم الذي خلقهم، وأرسل إليهم من يهديهم إليه، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإيمان برسالة الرسول وتصديقه في كل ما ينقله لهم عن ربهم الذي أرسله. [ ص: 778 ] وهو إيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله. يربطهم بالمنهج الذي اختاره الله لحياتهم وبينه لهم في هذا الكتاب; والأخذ بكل ما فيه، بما أن مصدره واحد، وطريقه واحد; وليس بعضه بأحق من بعضه بالتلقي والقبول والطاعة والتنفيذ.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو إيمان بالكتاب الذي أنزل من قبل. بما أن مصدر الكتب كلها واحد هو الله; وأساسها كذلك واحد هو إسلام الوجه لله; وإفراد الله سبحانه بالألوهية - بكل خصائصها - والإقرار بأن منهج الله وحده هو الذي تجب طاعته وتنفيذه في الحياة.. وهذه الوحدة هي المقتضى الطبيعي البديهي لكون هذه الكتب - قبل تحريفها - صادرة كلها عن الله. ومنهج الله واحد، وإرادته بالبشر واحدة، وسبيله واحد، تتفرق السبل من حولها وهي مستقيمة إليه واصلة.

                                                                                                                                                                                                                                      والإيمان بالكتاب كله - بوصف أن الكتب كلها كتاب واحد في الحقيقة - هو السمة التي تنفرد بها هذه الأمة المسلمة. لأن تصورها لربها الواحد، ومنهجه الواحد، وطريقه الواحد، هو التصور الذي يستقيم مع حقيقة الألوهية. ويستقيم مع وحدة البشرية. ويستقيم مع وحدة الحق الذي لا يتعدد.. والذي ليس وراءه إلا الضلال فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد الأمر بالإيمان، يجيء التهديد على الكفر بعناصر الإيمان، مع التفصيل فيها في موضع البيان قبل العقاب: ومن يكفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فقد ضل ضلالا بعيدا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر في الأمر الأول الإيمان بالله وكتبه ورسله. ولم يذكر الملائكة. وكتب الله تتضمن ذكر الملائكة وذكر اليوم الآخر، ومن مقتضى الإيمان بهذه الكتب الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر. ولكنه يبرزها هنا، لأنه موطن الوعيد والتهديد، الذي يبين فيه كل عنصر على التحديد.

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير بالضلال البعيد غالبا يحمل معنى الإبعاد في الضلال، الذي لا يرجى معه هدى; ولا يرتقب بعده مآب!

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يكفر بالله الذي تؤمن به الفطرة في أعماقها كحركة ذاتية منها واتجاه طبيعي فيها، ويكفر بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، استمدادا من كفره بالحقيقة الأولى.. الذي يكفر هذا الكفر تكون فطرته قد بلغت من الفساد والتعطل والخراب، الحد الذي لا يرجى معه هدى; ولا يرتقب بعده مآب!

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد هذين النداءين للذين آمنوا يأخذ السياق في الحملة على النفاق والمنافقين. ويبدأ بوصف حالة من حالاتهم الواقعة حينذاك، تمثل موقف بعضهم، وهو أقرب المواقف إلى الحديث عن الكفر والكفار:

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين آمنوا ثم كفروا. ثم آمنوا ثم كفروا. ثم ازدادوا كفرا. لم يكن الله ليغفر لهم، ولا ليهديهم سبيلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن الكفر الذي يسبق الإيمان يغفره الإيمان ويمحوه. فالذي لم يشهد النور معذور إذا هو أدلج في الظلام.. فأما الكفر بعد الإيمان. مرة ومرة.. فهو الكبيرة التي لا مغفرة لها ولا معذرة.. إن الكفر حجاب فمتى سقط فقد اتصلت الفطرة بالخالق. واتصل الشارد بالركب. واتصلت النبتة بالنبع. وذاقت الروح تلك الحلاوة التي لا تنسى.. حلاوة الإيمان.. فالذين يرتدون بعد الإيمان مرة ومرة، إنما يفترون على الفطرة، عن معرفة. ويلجون في الغواية عن عمد. ويذهبون مختارين إلى التيه الشارد والضلال البعيد.. [ ص: 779 ] فعدل ألا يغفر الله لهم; وعدل ألا يهديهم سبيلا; لأنهم هم الذين أضاعوا السبيل بعد ما عرفوه وسلكوه. وهم الذين اختاروا السيئة والعمى، بعد ما هدوا إلى المثابة والنور..

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا لم تتجرد النفس لله، لم تتحرز أبدا من ضغط القيم والأوضاع، والضرورات والمصالح، والحرص والشح. ولم ترتفع أبدا على المصالح والمغانم، والمطامع والمطامح. ولم تستشعر أبدا تلك الطلاقة والكرامة والاستعلاء التي يحسها القلب المملوء بالله، أمام القيم والأوضاع، وأمام الأشخاص والأحداث، وأمام القوى الأرضية والسلطان وأصحاب السلطان..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا تبذر بذرة النفاق.. وما النفاق في حقيقته إلا الضعف عن الإصرار على الحق في مواجهة الباطل. وهذا الضعف هو ثمرة الخوف والطمع، وتعليقهما بغير الله; وثمرة التقيد بملابسات الأرض ومواضعات الناس، في عزلة عن منهج الله للحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      فهناك مناسبة في السياق بين الحديث عن الإيمان بالله، والتجرد في القيام بالشهادة له، وبين الحديث عن النفاق إلى جانب المناسبة العامة، التي يكونها موضوع السورة الأصيل، وهو تربية الجماعة المسلمة بمنهج الإسلام; ومعالجة الرواسب الباقية من الجاهلية; وتعبئة النفوس كذلك ضد الضعف البشري الفطري.. ثم خوض المعركة - بهذه الجماعة - مع المشركين من حواليها، ومع المنافقين فيها. والسياق متصل في هذا الهدف العام من مبدأ السورة إلى منتهاها.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يستغرق الحديث عن النفاق والمنافقين بقية هذا الدرس، وهو ختام هذا الجزء.. بعد تلك الصورة التي رسمتها الآية السابقة لطائفة من المنافقين آمنوا ثم كفروا. ثم آمنوا ثم كفروا. ثم ازدادوا كفرا..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية