الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2554 (9) باب

                                                                                              في اشتراط الصداق في النكاح وجواز كونه منافع

                                                                                              [ 1477 ] عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال: " فهل عندك من شيء؟ " فقال: لا والله يا رسول الله فقال: "اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئا؟ " فذهب، ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتما من حديد" فذهب، ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري. قال سهل: ما له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء"، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا، فأمر به فدعي، فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن؟ " قال: معي سورة كذا وسورة كذا عددها. قال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم. قال: "اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن".

                                                                                              وفي رواية قال: "انطلق فقد زوجتكها، فعلمها من القرآن".


                                                                                              رواه البخاري (5087)، ومسلم (1425)، وأبو داود (2111)، والترمذي (1114)، والنسائي ( 6 \ 113 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (9) ومن باب: اشتراط الصداق في النكاح

                                                                                              هذه الترجمة يدل على صحتها قوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة [النساء: 4] وقوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم [النساء: 24] وقوله تعالى: ومن لم يستطع منكم طولا [النساء: 25] الآية. وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ( هل عندك شيء تصدقه إياها ؟) إلى قوله: ( التمس ولو خاتما من حديد ). ولا اختلاف في اشتراطه؛ وإن اختلفوا في مقدار أصله، وفي نوعه على ما يأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.

                                                                                              [ ص: 128 ] و (قولها: جئت أهب لك نفسي ) أي: أحكمك فيها من غير عوض. وكأن هذه المرأة فهمت جواز ذلك من قوله تعالى: وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي [الأحزاب: 50] وقد ذهب معظم العلماء: إلى أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: خالصة لك من دون المؤمنين [الأحزاب: 50] وقد دل على هذا المعنى من هذا الحديث قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لم يكن لك حاجة بها زوجنيها ). ولم يقل: هبها لي.

                                                                                              واختلفوا في النكاح: هل ينعقد بلفظ الهبة، ويكون فيه صداق المثل، أو لا ينعقد بها وإن سمى فيه مهرا؟ وإلى الأول ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، والجمهور. وبالثاني قال الشافعي .

                                                                                              و (قوله: فصعد النظر فيها، وصوبه، ثم طأطأ رأسه ) أي: نظر أعلاها، وأسفلها مرارا. و (طأطأ) أي: خفض وأطرق. وهذا دليل على جواز نظر الخاطب إلى المخطوبة، وتأمله ما لاح من محاسنها؛ لكن وعليها ثيابها، كما قال مالك .

                                                                                              و (قوله: التمس ولو خاتما من حديد ) تمسك به من لم ير للصداق حدا. [ ص: 129 ] وهم جمع كثير من الحجازيين، والشاميين؛ قالوا: يجوز النكاح بكل ما تراضى به الزوجان، أو من العقد إليه، مما فيه منفعة، كالسوط، والنعل، ونحوه. وبعضهم قال: بما له بال. وقالت طائفة أخرى: لا بد أن يكون أقله محدودا. وحملوه على أقل ما تقطع فيه يد السارق، وعلى الطريقة القياسية. وتحريرها: أن يقال: عضو آدمي محترم. فلا يستباح بأقل من كذا. قياسا على يد السارق. ويمكن أن يكون تحريره على وجه آخر. وتوجيه الاعتراضات عليه والانفصالات، مذكور في مسائل الخلاف. غير أن هؤلاء اختلفوا في أقل ما تقطع فيه يد السارق ، فاختلفت لذلك مذاهبهم هنا. فذهب مالك : إلى أن أقل ذلك ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الورق. وقال ابن شبرمة : أقل ذلك خمسة دراهم. وقال أبو حنيفة : أقله عشرة دراهم. وكذلك قال النخعي في أحد قوليه، وفي آخر: كره أن يتزوج بأقل من أربعين درهما. وقد اعتذر بعض المالكية عن قوله صلى الله عليه وسلم: ( التمس ولو خاتما من حديد ) بأوجه:

                                                                                              أحدها: بأن ذلك على جهة الإغياء والمبالغة، كما قال: (تصدقوا ولو بظلف محرق).

                                                                                              وفي أخرى: (ولو بفرسن شاة) وليس الظلف والفرسن مما ينتفع به، ولا يتصدق به. ومثل هذا كثير.

                                                                                              وثانيها: لعل الخاتم كان يساوي ربع دينار فصاعدا؛ لأن الصناع عندهم قليل.

                                                                                              وثالثها: أن أمره بالتماس الخاتم لعله لم يكن ليكون كل الصداق، بل ليعجله لها قبل الدخول.

                                                                                              [ ص: 130 ] والذي حمل أصحابنا على تأويل هذا الحديث قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين [النساء: 24] والدرهم وأقل منه تافه لا يقال عليه مال عرفا، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: لم تكن يد السارق تقطع في الشيء التافه) وإن كان يقال على من أخذه خفية: سارق. وهي التي قالت: لم تكن يد السارق تقطع في أقل من ثلاثة دراهم). ففرقت بين التافه وغير التافه بهذا المقدار. وهي أعرفهم بالمقال، وأقعدهم بالحال.

                                                                                              و ( الإزار ): ثوب يشد على الوسط. و (الرداء): ما يجعل على الكتفين. و (اللحاف): ما يلحف به جميع الجسد.

                                                                                              و (قول سهل : ما له رداء، فلها نصفه ) ظاهره: لو كان له رداء لشركها النبي صلى الله عليه وسلم فيه. وهذا في وجه لزومه بعد؛ إذ ليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا في كلام الرجل ما يدل على شيء من ذلك. ويمكن أن يقال: إن مراد سهل : أنه لو كان عليه رداء مضافا إلى الإزار؛ لكان للمرأة نصف ما عليه؛ الذي هو إما الرداء، وإما الإزار. ألا ترى تعليله منع إعطاء الإزار بقوله: ( إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء ) فكأنه قال: لو كان لك ثوب تنفرد أنت بلبسه، وثوب آخر تأخذه هي، تنفرد بلبسه لكان لها أخذه، فأما إذا لم يكن ذلك فلا.

                                                                                              وفيه ما يدل على أن المهر الأولى فيه أن يكون معجلا مقبوضا، وهو الأولى عند العلماء باتفاق. ويجوز أن يكون مؤخرا على ما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 131 ] (اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن، فعلمها). فإنه قد انعقد النكاح، وتأخر المهر الذي هو التعليم. وهذا على الظاهر من قوله: ( بما معك من القرآن ). فإن الباء للعوض، كما تقول: خذ هذا بهذا؛ أي: عوضا عنه.

                                                                                              و (قوله: علمها ) نص في الأمر بالتعليم. والمساق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح. ولا يلتفت لقول من قال: إن ذلك كان إكراما للرجل بما حفظه من القرآن؛ فإن الحديث يصرح بخلافه. وقول المخالف: إن الباء بمعنى اللام، ليس بصحيح لغة، ولا مساقا. وكذلك لا يعول على قول الطحاوي والأبهري : إن ذلك كان مخصوصا بالنبي صلى الله عليه وسلم كما كان مخصوصا بجواز الهبة في النكاح لأمور:

                                                                                              أحدها: مساق الحديث. وهو شاهد لنفي الخصوصية.

                                                                                              وثانيها: قول الرجل: زوجنيها، ولم يقل: هبها لي.

                                                                                              وثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: (اذهب، فقد زوجتكها بما معك من القرآن، فعلمها).

                                                                                              ورابعها: إن الأصل التمسك بنفي الخصوصية في الأحكام.

                                                                                              وفي هذا الحديث من الفقه: جواز اتخاذ خاتم الحديد . وقد أجازه بعض السلف، ومنعه آخرون لقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (حلية أهل النار). ورأوا أن المنع هو المتأخر عن الإباحة.

                                                                                              وفيه ما يدل على جواز كون الصداق منافع. وبه قال الشافعي ، وإسحاق ، والحسن بن حي ، ومالك في أحد قوليه. وكرهه أحمد ، ومالك في القول الثاني. ومنعه أبو حنيفة في الحر، وأجازه في العبد، إلا أن تكون الإجارة تعليم القرآن، فلا يجوز بناء على أصله في: أن تعليم القرآن لا يؤخذ عليه [ ص: 132 ] أجر. والجمهور على جواز ذلك. أعني: على جواز كون الصداق منافع.

                                                                                              وهذا الحديث رد على أبي حنيفة في منعه أخذ الأجر على تعليم القرآن . ويرد عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله). وسيأتي.

                                                                                              وقول الرجل: معي سورة كذا، وسورة كذا ) عددها. فقال: ( اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن، فعلمها ) يدل على أن القدر الذي انعقد به النكاح من التعليم معلوم؛ لأن قوله: ( بما معك ) معناه: بالذي معك. وهي السور المعددة المحفوظة عنده التي نص على أسمائها. وقد تعينت المنفعة، وصح كونها صداقا، وليس فيه جهالة. وقد روى هذا النسائي من طريق عسل بن سفيان ، وهو ضعيف. وذكر فيه: ( فعلمها عشرين آية ). وهذا نص في التحديد، غير أن الصحيح ما تقدم.

                                                                                              و (قوله: فقد ملكتكها ) وفي الرواية الأخرى: ( زوجتكها ). وقع في مختصر شيخنا المنذري لكتاب مسلم: ( اذهب فقد ملكتها ) قال: وروي: (ملكتها) وروي: (ملكتكها) وروي: (زوجتكها). قال أبو الحسن الدارقطني : رواية من قال: ( ملكتها ) وهم، ورواية من قال: (زوجتكها) الصواب. وهم أكثر وأحفظ. وقال غيره: (ملكتكها): كلمة عبر بها الراوي عن: زوجتكها. وقد رواه جماعة فقالوا: (زوجتكها) دليل على أن كل صيغة تقتضي التمليك مطلقا تجوز عقد النكاح عليها، وهو مذهب أبي حنيفة ، وحاصل مذهب مالك . قال ابن القصار : يصح النكاح بلفظ الهبة ، والصدقة، والبيع إذا قصد به النكاح، ولا يصح بلفظ الرهن، [ ص: 133 ] والإجارة والعارية، والوصية. ومن أصحابنا من أجازه بلفظ الإحلال، والإباحة، ومنعه آخرون؛ إذ لا يدلان على عقد. وأصل مذهب الشافعي : أنه لا يجوز بغير لفظ النكاح والتزويج. ويرد عليه قوله في هذا الحديث، في رواية من روى: (ملكتكها) وهي صحيحة. وفي بعض طرق البخاري : (فقد أمكناكها).

                                                                                              و (قوله: فعلمها من القرآن ) يعني به: السور التي عددها له، وأخبره أنه يحفظها، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى: ( بما معك من القرآن ) والله تعالى أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية