الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة وهو رد عليه ليس له أن يتلف أموال الناس وقال النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله إلا أن يكون معروفا بالصبر فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة كفعل أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بماله وكذلك آثر الأنصار المهاجرين ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال فليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة وقال كعب بن مالك رضي الله عنه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر

                                                                                                                                                                                                        1360 حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله عن يونس عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول [ ص: 346 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 346 ] قوله : ( باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى ) أورد في الباب حديث أبي هريرة بلفظ : خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " وهو مشعر بأن النفي في اللفظ الأول للكمال لا للحقيقة ، فالمعنى لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غنى ، وقد أورده أحمد من طريق أبي صالح بلفظ : إنما الصدقة ما كان عن ظهر غنى " وهو أقرب إلى لفظ الترجمة . وأخرجه أيضا من طريق عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن أبي هريرة بلفظ الترجمة ، قال : لا صدقة إلا عن ظهر غنى . الحديث . وكذا ذكره المصنف تعليقا في الوصايا ، وساقه مغلطاي بإسناد له إلى أبي هريرة بلفظه ، وليس هو باللفظ المذكور في الكتاب الذي ساقه منه ، فلا يغتر به ولا بمن تبعه على ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومن تصدق وهو محتاج إلى آخر الترجمة ) كأنه أراد تفسير الحديث المذكور بأن شرط المتصدق أن لا يكون محتاجا لنفسه أو لمن تلزمه نفقته . ويلتحق بالتصدق سائر التبرعات . وأما قوله : " فهو رد عليه " فمقتضاه أن ذا الدين المستغرق لا يصح منه التبرع ، لكن محل هذا عند الفقهاء إذا حجر عليه الحاكم بالفلس ، وقد نقل فيه صاحب " المغني " وغيره الإجماع ، فيحمل إطلاق المصنف عليه . واستدل له المصنف بالأحاديث التي علقها .

                                                                                                                                                                                                        وأما قوله : إلا أن يكون معروفا بالصبر . فهو من كلام المصنف ، وكلام ابن التين يوهم أنه بقية الحديث فلا يغتر به ، وكأن المصنف أراد أن يخص به عموم الحديث الأول . والظاهر أنه يختص بالمحتاج ، ويحتمل أن يكون عاما ويكون التقدير : إلا أن يكون كل من المحتاج أو من تلزمه النفقة أو صاحب الدين معروفا بالصبر . ويقوي الأول التمثيل الذي مثل به من فعل أبي بكر والأنصار ، قال ابن بطال : أجمعوا على أن المديان لا يجوز له أن يتصدق بماله ويترك قضاء الدين ، فتعين حمل ذلك على المحتاج . وحكى ابن رشيد ، عن بعضهم أنه يتصور في المديان فيما إذا عامله الغرماء على أن يأكل من المال فلو آثر بقوته وكان صبورا جاز له ذلك ، وإلا كان إيثاره سببا في أن يرجع لاحتياجه فيأكل فيتلف أموالهم فيمنع . وإذا تقرر ذلك فقد اشتملت الترجمة على خمسة أحاديث معلقة ، وفي الباب أربعة أحاديث موصولة . فأما المعلقة فأولها قوله : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من أخذ أموال الناس " وهو طرف من حديث لأبي هريرة موصول عنده في الاستقراض . ثانيها قوله : " كفعل أبي بكر حين تصدق بماله " . هذا مشهور في السير ، وورد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود ، وصححه الترمذي والحاكم من طريق زيد بن أسلم ، عن [ ص: 347 ] أبيه ، سمعت عمر يقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق ذلك مالا عندي فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ، فجئت بنصف مالي ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ، ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله . الحديث تفرد به هشام بن سعد ، عن زيد ، وهشام صدوق فيه مقال من جهة حفظه . قال الطبري وغيره : قال الجمهور من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه وكان صبورا على الإضاقة ، ولا عيال له أو له عيال يصبرون أيضا فهو جائز ، فإن فقد شيء من هذه الشروط كره . وقال بعضهم : هو مردود . وروي عن عمر حيث رد على غيلان الثقفي قسمة ماله . ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر الآتي ذكره ، فإنه صلى الله عليه وسلم باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبره لكونه كان محتاجا . وقال آخرون : يجوز من الثلث ويرد عليه الثلثان ، وهو قول الأوزاعي ، ومكحول . وعن مكحول أيضا يرد ما زاد على النصف . قال الطبري : والصواب عندنا الأول من حيث الجواز ، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جمعا بين قصةأبي بكر وحديث كعب ، والله أعلم . ثالثها قوله : " وكذلك آثر الأنصار المهاجرين " هو مشهور أيضا في السير ، وفيه أحاديث مرفوعة : منها حديث أنس : قدم المهاجرون المدينة وليس بأيديهم شيء ، فقاسمهم الأنصار . وسيأتي موصولا في الهبة . وحديث أبي هريرة في قصة الأنصاري الذي آثر ضيفه بعشائه وعشاء أهله ، وسيأتي موصولا في تفسير سورة الحشر . رابعها قوله : ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . هو طرف من حديث المغيرة ، وقد تقدم بتمامه في آخر صفة الصلاة . خامسها قوله : " وقال كعب " . يعني ابن مالك إلخ ، وهو طرف من حديثه الطويل في قصة توبته ، وسيأتي بتمامه في تفسير سورة التوبة .

                                                                                                                                                                                                        وأما الموصولة فأولها حديث أبي هريرة : خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى . فعبد الله المذكور في الإسناد هو ابن المبارك ، ويونس هو ابن يزيد . ومعنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته . قال الخطابي : لفظ الظهر يرد في مثل هذا إشباعا للكلام ، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية ، ولذلك قال بعده : وابدأ بمن تعول . وقال البغوي : المراد غنى يستظهر به على النوائب التي تنوبه . ونحوه قولهم : ركب متن السلامة . والتنكير في قوله : " غنى " للتعظيم ، هذا هو المعتمد في معنى الحديث . وقيل : المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة ، وقيل : " عن " للسببية والظهر زائد ، أي : خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدق . وقال النووي : مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون ، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر ، فإن لم يجمع هذه الشروط فهو مكروه . وقال القرطبي في " المفهم " : يرد على تأويل الخطابي بالآيات والأحاديث الواردة في فضل المؤثرين على أنفسهم ، ومنها حديث أبي ذر : أفضل الصدقة جهد من مقل . والمختار أن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث لا يصير المتصدق محتاجا بعد صدقته إلى أحد ، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه ، وستر العورة ، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى ، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار به بل يحرم ، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى [ ص: 348 ] إهلاك نفسه أو الإضرار بها أو كشف عورته ، فمراعاة حقه أولى على كل حال ، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمل من مضض الفقر وشدة مشقته ، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله . قوله : ( وابدأ بمن تعول ) فيه تقديم نفقة نفسه وعياله ، لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم ، وسيأتي شرحه في النفقات ، إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية