الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب من حلف لا يأكل إداما بماذا يحنث

                                                                                                                                            3806 - ( عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { نعم الأدم الخل } رواه الجماعة إلا البخاري ، ولأحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي من حديث عائشة مثله ) .

                                                                                                                                            3807 - ( وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة } ) .

                                                                                                                                            [ ص: 255 ] وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { سيد إدامكم الملح } رواهما ابن ماجه )

                                                                                                                                            3809 - ( وعن يوسف بن عبد الله بن سلام قال : { رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة وقال : هذه إدام هذه } رواه أبو داود والبخاري ) .

                                                                                                                                            3810 - ( وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم } رواه ابن قتيبة في غريبه ، فقال : حدثنا القومسي ، حدثنا الأصمعي عن أبي هلال الراسبي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه فذكره )

                                                                                                                                            3811 - ( وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة ، فأتى رجل من اليهود فقال : بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة ؟ قال : بلى ، قال : تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال : ألا أخبرك بإدامهم ؟ قال : بلى ، قال : إدامهم بلام ونون ، قال : ما هذا ؟ قال : ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا } متفق عليه ، والنون : الحوت ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث ابن عمر رجال إسناده في سنن ابن ماجه ثقات إلا حسين بن مهدي شيخ ابن ماجه فقال في التقريب : إنه صدوق ، وعزاه السيوطي في الجامع الصغير أيضا إلى الحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب . وأخرج أيضا الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعا : { ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة }

                                                                                                                                            وحديث أنس في إسناده عند ابن ماجه رجل مجهول فإنه قال عن رجل أراه موسى عن أنس ، وقد أخرجه أيضا الحكيم الترمذي .

                                                                                                                                            وحديث بريدة أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في الطب من حديث علي بإسناد ضعيف قوله : ( نعم الأدم ) قال النووي : الإدام بكسر الهمزة ما يؤتدم به ، يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال ، وجمع الإدام أدم بضم الهمزة كإهاب وأهب وكتاب وكتب والأدم بإسكان الدال مفرد كالإدام

                                                                                                                                            قال الخطابي والقاضي عياض : معنى الحديث مدح الاقتصار في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة ، تقديره ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة [ ص: 256 ] للبدن

                                                                                                                                            قال النووي : والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه ، وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر . وأما قول جابر فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وسلم فهو كقول أنس : " ما زلت أحب الدباء " قال : وهذا مما يؤيد ما قلنا في معنى الحديث إنه مدح للخل نفسه

                                                                                                                                            وتأويل الراوي إذا لم يخالف الظاهر يتعين المصير إليه والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء والأصوليين وهذا كذلك ، بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ فيتعين اعتماده قوله : { ائتدموا بالزيت } فيه الترغيب في الائتدام بالزيت معللا ذلك بكونه من شجرة مباركة قوله : { سيد إدامكم الملح } قد تقدم أن الإدام اسم لما يؤتدم به : أي يؤكل به الخبز مما يطيب . سواء كان مما يصطبغ به كالأمراق والمائعات أو مما لا يصطبغ به كالجامدات من الجبن والبيض والزيتون وغير ذلك

                                                                                                                                            قال ابن رسلان : هذا معنى الإدام عند الجمهور من السلف والخلف انتهى . ولعل تسمية الملح بسيد الإدام لكونه مما يحتاج إليه في كل طعام ولا يمكن أن يساغ بدونه ، فمع كونه لا يزال مخالطا لكل طعام محتاجا إليه لا يغني عنه من أنواع الإدام شيء وهو يغني عنها بل ربما لا يصلح بعض الأدم إلا بالملح ، فلما كان بهذا المحل أطلق عليه اسم السيد وإن لم يكن سيدا بالنسبة إلى ذاته لكونه خاليا عن الحلاوة والدسومة ونحوهما قوله : ( فوضع عليها تمرة ) فيه أن وضع التمرة على الكسرة جائز ليس بمكروه وإن كان البزار قد روى حديث { أكرموا الخبز } مع ما في الحديث من المقال ، فمثل هذا لا ينافي الكرامة قوله :

                                                                                                                                            ( هذه إدام هذه ) فيه دليل على أن الجوامد تكون إداما كالجبن والزيتون والبيض والتمر ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : ما لا يصطبغ به فليس بإدام لأن كل واحد منهما يرفع إلى الفم منفردا قوله : ( سيد إدام أهل الدنيا . . . إلخ ) فيه تصريح بأن اللحم حقيق بأن يطلق عليه اسم السيادة المطلقة في الدنيا والآخرة ، ولا جرم فهو بمنزلة لا يبلغها شيء من الأدم كائنا ما كان ، فإطلاق السيادة عليه لذاته لا لمجرد الاحتياج إليه كما تقدم في الملح قوله : ( خبزة واحدة ) بضم الخاء المعجمة وسكون الموحدة بعدها زاي : هي في أصل اللغة : الظلمة ، والمراد بها هنا المصنوع من الطعام

                                                                                                                                            قال النووي : معنى الحديث أن الله يجعل الأرض كالظلمة والرغيف العظيم ، ويكون ذلك طعاما نزلا لأهل الجنة ، والله تبارك وتعالى على كل شيء قدير قوله

                                                                                                                                            ( بلام ونون ) الحرف الأول باء موحدة وبعدها لام مخففة بعده ميم مرفوعة غير منونة ، كذا قال النووي . قال : وفي معناها أقوال مضطربة ، الصحيح منها الذي اختاره القاضي وغيره من المحققين أنها لفظة عبرانية معناها بالعبرانية ثور ، ولهذا فسر ذلك به ووقع السؤال لليهود عن تفسيرها ، ولو كانت عربية لعرفتها الصحابة ولم يحتاجوا إلى سؤاله عنها ، فهذا هو المختار في بيان هذه اللفظة

                                                                                                                                            قال : [ ص: 257 ] وأما النون فهو الحوت باتفاق العلماء ، والمراد بقوله " يتكفؤها " أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها . والنزل بضم النون والزاي ، ويجوز إسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله . قال الخطابي : لعل اليهودي أراد التعمية عليهم فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين على الآخر وهي لام ألف وياء ، يريد لاي على وزن لعا : وهو الثور الوحشي فصحف الراوي الياء المثناة فجعلها موحدة

                                                                                                                                            قال الخطابي : هذا أقرب ما يقع لي فيه ، والمراد بزائدة الكبد قطعة منفردة متعلقة بالكبد وهي أطيبها قوله : ( يأكل منها سبعون ألفا ) قال القاضي : يحتمل أنهم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فخصوا بأطيب النزل ، ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفا عن العدد الكثير ولم يرد الحصر في ذلك القدر ، وهذا معروف في كلام العرب .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية